المناطق الآمنة تُبدّد الحماس الأمريكي على الحدود الجنوبية

لم تكد الجولة الرابعة من المفاوضات في العاصمة الكازخستانية (أستانا) تختتم أعمالها، حتى بدأت أقلامٌ رخيصة وأخرى خبيثة وثالثة لم تبلغ الحلم في السياسة بعد، برسم الخرائط والسيناريوهات التقسيمية للجغرافية السورية.
فعلى ما يبدو أن ضجيج آليات الناتو عند الحدود الجنوبية، في مناورات الأسد المتأهب، قد منح بعض النفوس المريضة والمنهارة،أمام قوة الحق والمنطق في مقترح المناطق الآمنة، دفعةَ أملٍ جديدة بتخريب ما تبقى من هذا البلد.
نحن لا نشك بدهاء أعداء سورية على الاطلاق، ونعلم جيداً بأنهم أدركوا أن إعلان المناطق الآمنة هو في الحقيقة إعلان للنصر عليهم. فلقد أعاد هذا الإعلان الصراع إلى مربعه الأول، مربع الإرادة السورية الثابتة والراسخة، ذلك أن اللغة الوحيدة هي لغة الحوار والسلاح سيبقى مرفوعاً في وجه من يرفع السلاح ضد الدولة السورية.
إلا أن هؤلاء مستعدون للمضي في تجاهلهم وغيهم إلى ما لا نهاية، متناسين جوهر الصراع، فهم لا يزالون حتى اللحظة يقدّمون التحليلات والتنبنؤات التي تتناقض مع سيرورة هذا الصراع، غير عابئين بالحكمة الراسخة التي تؤكد أن: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

تبرز الدبلوماسية الروسية الهادئة والرزينة، من جديد، وكأنها صمام الأمان الذي يعمل كلما ارتفعت درجة خبث ومكر أعداء سورية. فروسيا تدرك جيداً كل تفاصيل الأزمة السورية وتعرف كل خباياها، وكيف لا،
وهي جزء من هذا الشرق وشريك أساسي في صناعة أحداثه وتاريخه؟! علاوة على ذلك،هي جزء من تاريخ وجغرافيا الغرب نفسه، وتعرف جيداً كيف تدير الحوار والصراع معه. لذلك جاء اقتراحها موفقاً في الزمان والمكان والجوهر والتكتيك والاستراتيجية.
وهكذا أصبح معلوماً للجميع بأنه ستتشكل أربع مناطق آمنة في سورية:

1-محافظة إدلب: حيث يوجد حوالي مليون مدني فيها، وعدد الإرهابيين حوالي 5,14 ألفاً.

2-منطقة الرستن وتلبيسة شمال حمص: حيث يوجد حوالي 180 ألف مدني، و 3 آلاف إرهابي.

3-الغوطة الشرقية: ويسكن فيها حوالي 700 ألف مدني، وفيها 9 آلاف إرهابي.

4-درعا والقنيطرة: ويبلغ عدد السكان المدنيين حوالي 800 ألف نسمة، ويوجد فيها 15 ألف إرهابي.

في الواقع، إن هذه المناطق جميعها تقع داخل الجغرافية السورية، وهذا يعني أنه لا يمكن المضي في تنفيذ أي خطوة عملاتية إلا بموافقة الحكومة السورية، لذلك لا خوف ولا قلق من التقسيم على الإطلاق. ولقد أكّد الجانب الروسي هذه النقطة عند صياغته للاتفاق، بأن إنشاء هذه المناطق سيوفر الشروط الموضوعية لإجراء المصالحات وبالتالي العودة التدريجية إلى حضن الوطن.
ومن الناحية الفنية فإنه سيتم، على طول حدود هذه المناطق، إنشاء شريط آمن، يحتوي نقاط مراقبة وتفتيش وحواجز، تشرف عليها الدول الضامنة للاتفاق، وهكذا سيتم عبر هذا الشريط: تنظيم حركة المدنيين، مراقبة نظام وقف إطلاق النار، ضبط الأعمال الحربية، تقديم المعونات الطبية والغذائية. وفي داخل هذه المناطق سوف تتمالاستعادة التدريجية للمرافق الحياتية والاجتماعية.

لا تخطئ العين الخبيرة بأن تخفيف التوتر في هذا المناطق يمثل الوجه الأول لهذا الاتفاق، أما الوجه الثاني، وهو الأهم، فهو إعادة التواصل الجغرافي والاجتماعي لهذه المناطق مع الدولة السورية. فلقد اتخذ الإرهابيون سكان تلك المناطق دروعاً بشرية، وأهلنا هناك يعانون أشد أنواع الإهانة والذل، وهم بذلك يدفعون ثمن تمسكهم البطولي بأرضهم وبيوتهم وممتلكاتهم.

نعلم جميعاً أنه، منذ بداية الأزمة السورية، كانت تتعالى صرخات الغرب المتألم على الوضع الإنساني في سورية، مطالبةً باستحداث مناطق حظر للطيران، مرة في الشمال ومرة في الجنوب، والحجة الدائمة في ذلك هي المحافظة على حياة السكان المدنيين، ولقد كان الجانب السوري يعلم جيداً الغاية الحقيقية لهذه المطالب.
إلا أن تحولات الميدان وسيرورة الصراع أنتجتا واقعاً جديداً، ملائماً لطرح فكرة خلق المناطق الآمنة. وفي هذا السياق، يحلو للكثير من الأقلام المأجورة تصوير الأحداث بطريقة غريبة، وهي أن روسيا وسورية استجابتا لفكرة المناطق الآمنة نتيجة للضغط الأمريكي، بعد قصف الأخيرة لمطار الشعيرات، لكن الواقع لا يدعم هذه الفكرة على الإطلاق، لأن الضغط الأمريكي لم يتوقف حتى هذه اللحظة، كما أن اتفاق المناطق الآمنة الذي اقترحته روسيا مختلف تماماً عن جميع سابقيه.

ختاماً، لا بد من الإشارة إلى الموقف الأمريكي المثير للريبة، فالإدارة الأمريكية لم تتأخر ولم تترد في تأييد المقترح الروسي حول المناطق الآمنة. إذ إن ينابيع المكر الأمريكي لا تنضب، ولا حدود لرغبتهم في المقامرة على حساب باقي شعوب العالم.
فعلى ما يبدو أن صانعي القرار في الولايات المتحدة أدركوا مباشرة، أن اتفاق المناطق الآمنة سوف يؤدي إلى خروجهم نهائياً من ساحة الصراع، لذلك قامت الطائرات الأمريكية، في 18 أيار، بالاعتداء على رتلٍ للجيش العربي السوري كان متجهاً إلى معبر التنف الحدودي بين سورية والعراق. ليبدأ بعدها الترويج، في الصحافة الغربية، لفكرة خلق منطقة آمنة بحكم الواقع شرق سورية، على غرار المناطق الآمنة التي اقترحتها روسيا، والغاية المعلنة هي تدريب بعض القوات المحلية لمواجهة داعش.
والسؤال البسيط الذي يطرح في هذا السياق:
ما أهمية إنشاء منطقة آمنة في صحراء غير مأهولة؟!
فالسعي في توفير الأمن في منطقة ما يفترض وجود خطر على سكان هذه المنطقة! لقد جاءت الرسالة الأمريكية واضحة تماماً، فكأن لسان حالهم يقول: على رغم من أن روسيا استطاعت سحب كل الذرائع من أيدينا لتخريب هذا البلد، إلا أننا سنقوم بتحويل الصراع باتجاه آخر! وسنحاول إلقاء الضوء على هذه النقطة الأخيرة في مقالتنا القادمة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024