تصريحات دونالد ترامب الملتبسة مثيرة للجدل والاستغراب والترقب

أبرز ما أعلنه الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب في أول مؤتمر صحفي له قبيل توجهه إلى البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية هو توجيه الاتهام مرة ثانية لإدارة سلفه باراك أوباما بأنها خلقت تنظيم داعش داعياً إلى التعاون مع موسكو لمحاربة هذا التنظيم، ولافتاً في الوقت ذاته إلى أن هذا الأمر على جانب من التعقيد.

غير أنه كان لوزير الدفاع الأمريكي الجديد جيمس ماتيس، موقف مغاير لرغبة الرئيس ترامب بشأن تحسين العلاقات مع روسيا، فقد أشار ماتيس أمام مجلس الشيوخ الأمريكي إلى أنّ توقعاته متواضعة جداً حيال مجالات التعاون مع الجانب الروسي، لافتاً في الوقت نفسه إلى أنه يدعم إرادة إطلاق الحوار مجدداً مع الكرملين، لكنه حذر من تنامي القدرة الروسية قائلاً (علينا أيضاً أن نعترف بالواقع وبما هي روسيا قادرة عليه، فهناك مجالات تقل تدريجياً يمكننا فيها التحاور والتعاون بفاعلية، وهناك أيضاً عدد متزايد من المجالات التي يتوجب علينا أن نتصدى فيها لروسيا).

في ضوء موقف ترامب المثير للجدل والترقب، وموقف ماتيس الأكثر وضوحاً بشأن ما ستكون عليه العلاقات الأمريكية الروسية خلال السنوات الأربع القادمة التي سيقضيها ترامب في البيت الأبيض، يمكن القول إنه من الصعوبة بمكان التكهن بماهية تلك العلاقات، ولاسيما تلك المتصلة بالمسألة السورية، مع الأخذ بالاعتبار السياسة العامة للولايات المتحدة الأمريكية في الجانب المتعلق منها بالمنطقة العربية عامة والوضع الراهن في الساحة السورية بصورة خاصة.

وإذا كان لدى البعض ذرة تفاؤل بإحداث انقلاب (ترامبي) دراماتيكي على الأهداف الأمريكية المعهودة منذ قيام الولايات المتحدة حتى نهاية عهد أوباما قبل أيام، فإن هذا البعض وعلى الرغم من تفاؤله البسيط، يبدو مغالياً في تفاؤله في ضوء ما سبق أن مارسته الإدارات الأمريكية السابقة من سياسات مكشوفة تتناقض أصلاً مع ادعاءاتها ومزاعمها حول حرصها على الحرية والديموقراطية وإنسانية الإنسان وحقوقه المشروعة، بل إنها سياسات تتفق مع مصالحها الامبريالية على حساب المصالح المشروعة لشعوب العالم، ولعل أكبر شاهد على ذلك قيام الـ (سي آي إي) والبنتاغون بدعم التنظيمات الإرهابية في الجزائر أولاً ومن ثم في العراق وليبيا وسورية واليمن وتونس ومصر في إطار إقامة شرق أوسط جديد وإحلال الفوضى الخلاقة فيه على حد تعبير وزيرة الخارحية الأمريكية سابقاً كونداليسا رايس.

أما بالنسبة لسورية فإن موقف ترامب حتى اللحظة يبدو ضبابياً بل ملتبساً إلى حدٍّ كبير، إذ كيف يمكن لهذا الرئيس الأمريكي الذي يبدو ظاهرياً مختلفاً عن أسلافه من ساكني البيت الأبيض أن يُقنع أحداً بالعمل على إنهاء ظاهرة داعش، وفي الوقت ذاته يُعلن عزمه على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس على سبيل المثال لا الحصر، ما يعني أنه في ما يطلق من مواقف، يبدو حائراً بين أن يكون مختلفاً في جوهر سياسته القادمة عن سياسات الإدارات الأمريكية السابقة التي اعتادت شعوب العالم من أقصاه إلى أقصاه عليها والتي تضع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في سلم أولوياتها الرامية إلى تحقيق تلك المصالح التي تتفق مع مخططات دوائر البنتاغون والاستخبارات والمؤسسة الصناعية الحربية وأباطرة النفط والغاز الأمريكيين الذين يستثمرون النفط العربي وغير العربي ويسعون للسيطرة على نفط باقي الشعوب، أو أن ينقلب على تلك السياسات وهو أمر يدخل بطبيعة الحال في سلم المستحيلات والمحرمات التي تحكم تلك الدوائر.

ثمة تساؤلات موضوعية حول برامج ترامب السياسية والمتعلقة بالاستراتيجيات الأمريكية وأهدافها القريبة والبعيدة، ويكفي طرح بعض التساؤلات التي تتصل برضا ترامب على السياسات السعودية والقطرية والتركية تجاه ما يجري في سورية، وهل بإمكان ترامب أن يعيد النظر بعلاقات واشنطن مع كل من الرياض والدوحة وأنقرة مع الأخذ بالاعتبار المصالح الأمريكية الاقتصادية والعسكرية في بلدان الخليج العربية؟ وهل بإمكان ترامب أيضاً التضحية بحليفه التركي العضو في حلف شمال الأطلسي والذي يحتضن مجموعة من القواعد العسكرية الجوية التي يعتبرها البنتاغون الأمريكي جزءاً أساسياً من الدرع الصاروخية الأمريكية الموجهة أساساً ضد جمهورية روسيا الاتحادية من خلال خاصرتها الجنوبية الغربية من جهة، وحماية مصالحها في منطقة الخليج من جهة ثانية؟

وهل بإمكان ترامب المضي في تشجيع ودعم الأكراد في إقامة كانتون كردي ترفضه أنقرة جملة وتفصيلاً؟

وهل سيكون ترامب شريكاً صادقاً مع الجانب الروسي في التوصل إلى تسوية للمسألة السورية تأخذ بالاعتبار المصالح الوطنية السورية والسيادة السورية المنصوص عليها في دستور الجمهورية العربية السورية؟

وهل بإمكان ترامب الاستفادة من الإخفاقات السياسية التي منيت بها الإدارات الأمريكية السابقة بسبب تدخلاتها السافرة في البلدان الأخرى، فيذهب إما باتجاه إعادة النظر في تلك السياسات، أو باتجاه ممارسة تلك السياسات لكن بصورة جديدة تخدم المصالح الأمريكية نفسها على حساب مصالح الشعوب الأخرى الوطنية المشروعة، وبذلك لن يكون مختلفاً عن أقرانه من الرؤساء الأمريكيين السابقين .

تساؤلات ضرورية لكن الإجابات عليها معروفة مسبقاً، مالم يكن ترامب هو غورباتشوف أمريكا، فيفتح حواراً بناءً مع روسيا الاتحادية على غرار انفتاح غورباتشوف على الغرب الاستعماري مع التباين المطلق بين الحالتين، ويكون رجلاً استثنائياً في سياق التاريخ الأمريكي (على حد تعبير ديفيد بيل في مجلة فورين بوليسي) فيجعل الأوضاع في بلاده مفتوحة على كل الاحتمالات، وهذا ما عبر عنه يوري فريدمان في تقرير نُشر مؤخراً في مجلة (ذي أتلانتك) قال فيه (إن المحللين الخاصين بالحكومة الأمريكية يرون أن العصر الأمريكي يتّجه إلى الأفول)، فيما يرى البعض أن ترامب الذي أعلن تخلّيه عن الاستثنائية الأمريكية لن يتخلى عن اعتبار أن القوة الأمريكية يجب أن تتطور بغية إقحامها في مغامرات غير محمودة النتائج في الدول الأخرى وضد شعوب تلك الدول.

إن أمام ترامب الآن فرصة تاريخية تتمثل إما بالاستماع جيداً للرؤى الروسية المتوافقة مع الرؤى السورية والتناغم معها بما يحقق الوصول إلى تسويةٍ للوضع في سورية تضمن سلامتها وسيادتها ووحدة ترابها الوطني، أو أن يذهب في الاتجاه المعاكس ليواصل سياسة سابقيه الرعناء المتغطرسة المعادية للشعوب وهذا ما يعتقده عدد لابأس به من المحللين السياسيين، وبانتظار الأشهر الأولى من ولايته سوف تتم معرفة الخيط الأبيض من الخيط الأسود،وإن غداً لناظره قريب.

العدد 1104 - 24/4/2024