وكسر الهاء..حكايات حلب في صخب الصحافة!

 كيف يتعامل الكاتب مع نصه عندما تدعوه الصحافة ليكتب فيها مقالاً أسبوعياً؟!

في واحد من الأجوبة نقرأ أن عليه، أي على هذا الكاتب، (أن يختار إنجاز نصه الذي ينتسب إليه)، وهي أفضل طريقة للخلاص من ماكينة الصحافة ولغتها اليومية وعباراتها الجاهزة، ومن ثم هزالة الأساليب التي تتبع في الترويج للرسائل السياسية التي تضخ عبرها بأسهل وسيلة رائجة وهي الديماغوجيا!

فكرة (النص الذي ينتسب إليه)  كانت طريقة الدكتور نضال الصالح في نصوصه المنشورة كمقالات في صحف يومية أو أسبوعية، والجميل أنه سخر فهمه للعبة الكتابة من أجل الخلاص من ورطة الصحافة وإغرائها، فقدم نصوصاً يفترض التمعن بها عند دراسة آليات الكتابة في صحفنا.

وفي آخر نموذج له نقرأ في (توت شامي) نموذج المقال الصحفي عندما يكون أدباً، ليس هذا فحسب، بل إنه – أي المقال – يبحث عن مرتكزات ساحرة للنص في الشكل والمضمون يجعلها الحامل الطيّع لموضوعات: (الحب)، (الأغنية)، (الشعر)، (الأساطير أو الحكايات والوقائع التاريخية)، فإذا بالقارئ يتناول جرعة طيبة أعدت (خلطتها) بعناية، وإذا فيها تاريخ، وأدب، وخيال، وواقع، وأمكنة.. وكل عناصر هذه الخلطة تعمل بعناية لإيصال الرسالة التي يريدها الكاتب!

رغم كل ذلك، كان في نصوص (توت شامي) نوع من المعادلات  يقوم الكاتب بصياغة رموزها بفنية عالية، من بين تلك المعادلات معادلة (المكان/ الإنسان/ الوطن)، فترى النصوص تضج بالحب والحياة والتضحية والتآخي:

في نص عنوانه (توت شامي): هناك دمشق وحلب في نسيج إنساني شفاف من الحب (محمود من حلب وفاطمة من دمشق) يكسره الحدث: غادر محمود حلب ليلتحق بالجيش!

في نص (ترجمان الأشواق): هناك دمشق والجبل الأشم في الجنوب وتؤامه عند البحر: ثلاثة أمكنة في علاقة من الحب بين (شمس من السويداء وأشواق من الساحل) يعملان متطوعين في مجموعة (سورية أمنا) يكسرها الحادث: يستشهد شمس بقذيفة!

في نص (سالم.. يا..): سالم من حلب،يحب فتاة من اللاذقية بعد أن يهاجر إليها إثر تهديده، فيستشهد.

في نص (كتاب الحياة): هناك قصة حب بين شادن من حلب والمهند من دمشق يكسرها الحدث وهو استشهاد مهند بقذيفة، ونكتشف أن المهند كتب على صخرة في قاسيون: دمشق كتاب الحياة!

في نص (الرسالة الأخيرة): هناك قصة حب بين رغد الحلبية ومجد من طرطوس (بحنين) يكسر القصة استشهاده مع أخيها في حقل الشاعر!

يلاحظ القارئ أن هذه النماذج من النصوص هي معادلات قصصية يفكفكها الحدث اليومي (الحرب) ليكشف مداليلها، وهذه المداليل تأتي بحيادية (الجميع سوريون) = الانتماء للوطن الذي يرتكز على الحب = الحرب ليست بين السوريين، الحرب عليهم! وفي سيلان الكتابة الأسبوعي يفرد الدكتور نضال الصالح  نماذج لافتة من نصوص قصصية خاصة بالصحافة، ففي نص (عصافير الشمال) يهجّر أنس من حلب نتيجة الحرب، فيستقبله أبو بهجت في عين شقاق في اللاذقية، يستقبله مع جميع أسرته دون استثناء. بل ويعطيهم طابقاً كاملاً في البناء الذي يسكنه (أي هناك حالة اقتسام).

يكسر حدة الحكاية بمعلومة صحفية ذات دلالة (عين شقاق قدمت 90 شهيداً و11مختطفاً، واحتضنت 32 أسرة مهاجرة من كل أنحاء سورية). يموت أبو أنس فيخصص أبو بهجت أرضاً للقبر. وعندما يهطل المطر في عين شقاق يرى الجميع عصافير باذخة البياض تصعد من القبر (ثم تطير جهة الشمال)، أي حلب!

وفي نص (زمان كريم) تبدو عفوية السوري في تجلّ رقيق يحصل في رمضان عندما يتجول مهجّر حلبي في شوارع دمشق القديمة ويصادف بائع خبز (الناعم) يتعرف البائع على (حلبيته) من اللهجة، فيرفض أن يأخذ ثمن الرغيف!…في كل نموذج هناك دفق خاص، يوثقه أحياناً بالمعلومة التاريخية التي تؤكد أن حلب تعرضت كثيراً لأهوال الغزاة، لكنها كانت تصمد وتستعيد ألقها!

أجمل نصوص(توت شامي) هو نص (وكسر الهاء)، وفيه  تتحول حلب إلى أسطورة فيستعيد الكاتب صورة من اللحظات البشعة في التاريخ إلى الحاضر، وذلك في حصار نقفور لحلب إذ تقرر النساء المسبيات قتل حراس السجن لحماية شرف حلب، إلا واحدة تتردد وتخاف ولا تشارك في العملية ولكنها، عندما يستفرد بها جندي غاز ليغتصبها تسرق مديته وتقتل نفسها!

هذا في الماضي، أما اليوم في حي البياضة المتاخم لقلعة حلب، فتظهر المقارنة التاريخية والقصصية بفنية عالية، فترفض (حميدة)  مغادرة البيت رغم هجوم الغزاة عليه . تقول: كيف سيعود عبدو  ولا يجدني فيه؟! وعبدو هو زوجها، توفي منذ سنتين، لذلك كانت النسوة يعتقدن أن حميدة فقدت عقلها لأنها كانت تخبرهن أن عبدو يأتي كل ليلة ليطمئن عليها ويبقى معها حتى (جهجهة الضو)!

فما الذي حصل لحميدة مع الغزاة الجدد، وماذا قالت الشاهدة العيان أم كرمو جارة حميدة؟! الجواب في واحدة من أجمل أساطير حلب الجديدة:

أقسمت (أم كرمو)، بكسر الهاء، أنها رأت حميدة، وهي تقاوم رجلين أشعثين أغبرين كانا يمزقان ثيابها عنها في أرض الدار. كما رأت (عبدو) وهو يهبط من السطح، ثم يسقط بجسده فوقهما، ثم يدك بقدميه عنقيهما، ثم يضم حميدة إلى صدره، ثم.. ثم وحق المصحف، وحق النبي، وحق سيدنا زكريا، شفت ضو عميطلع من قلب الحارة ومن القلعة، من كل حلب، ضو متل النهار!!

العدد 1140 - 22/01/2025