فلنكتب اليوم.. وليس غداً!

مالك عجيب:

غداة حرب تشرين التحريرية عام 1973م أطلق الشاعر نزار قباني نداءه الشهير للكُتّاب داعياً إياهم إلى التجمّع والكتابة، محذّراً من أنهم إن لم يكتبوا في يومٍ كهذا فلن يكتبوا أبداً.

لا ندري ما إن كان شاعرنا الكبير قد أطلق صرخته تلك لمجرّد رغبته في التعبير عن مشاعر الحماس التي انتابته ومعه عموم الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج بإزاء معارك الكرامة التي اندلعت على سفوح الجولان ورمال سيناء، أم أنه أراد أيضاً بتلك الصرخة بثّ الحياة في تلك الأقلام التي أنِس منها خوراً وتردداً في مواكبة الحدث الجلل لسببٍ أو لآخر، تلك الأقلام التي كثيراً ما يؤثر أصحابها عند كل خطبٍ جللٍ يلمّ بالأمة الانزواء في زوايا قواقعهم المعتمة -ولا أقول في أبراجهم العاجية- بعيداً عن تيار الحياة والموت الجاري تحت أقلامهم وفوق أوراقهم، هناك في عالمهم الموازي حيث بإمكانهم أن يتطارحوا اليأس، ويتقادحوا كؤوس القنوط، ويتعاطوا عقاقير اللاانتماء واللاجدوى، بعيداً عن الصخب الشعبي المزعج المفعم بتلك القيم البائدة التي يرى أمثال هؤلاء أنها قد غدت (موضة) قديمة لا تناسب ذوقهم النخبوي الرفيع، الوطن.. الكرامة.. الكبرياء.. الفداء.. كلها مجرّد كلماتٍ ومفاهيم جوفاء بلا معنى بالنسبة لهم، كلمات لا ينبغي لها أن تشغلهم عن مداولاتهم السفسطائية الحامية الوطيس حول كل ما لا يضر ولا ينفع من تلك القضايا والمسائل المعلبة القابلة للتدوير وإعادة التدوير، ولعل آخرها مسألة تحديد جنس شياطين الشِعر، مفاهيم لا ينبغي لها أن تعكّر عليهم صفو سماواتهم الللازوردية السرمدية، وأن تخدش بهاء انعكاس ضياء أقمارهم القصديرية على صفحات شواطئهم الليلكية، وأن تفسد عليهم متعة استحضار ذكريات اللقاء والفراق، والقرب والنأي، والبوح والصمت، العابقة بروائح العطور الباريسية والقهوة الإيطالية والشوكولا السويسرية.
والغريب أننا قد نجد بين هؤلاء ذاتهم بعضاً ممن كانوا قد أفرغوا مداد أقلامهم في تدبيج المقالات المطوّلة المنمّقة عن وظيفة الأدب ودور المثقف، وأتخموا بطون الكتب بالتنظير عن الأدب الواقعي والأدب الملتزم، وخاضوا ما لا يحصى من الحروب الدونكيشوتية حول مفاهيم الأدب القائد، والأدب الرائد، والأدب الصدى، وأشادوا بصاحب البؤساء، وبصاحب الحرب والسلم، وبصاحبة ذهب مع الريح، بل وربما بصاحب الإلياذة أيضاً، وكالوا المديح لسواهم ممن جعلوا من إبداعهم  منبراً لرواية تاريخ أوطانهم، إلا أنهم عندما تقع الواقعة ويجدّ الجدّ كما يقال، يرتدّون إلى قواقعهم متنكّرين لإرثهم الدونكيشوتي وهم خير العارفين بأن التنظير شيء والممارسة شيء آخر.
ومنهم أيضاّ من يقبع في قوقعته منتظراً انجلاء الغبار، فإن كان النصر حليف قومهم خرجوا من قواقعهم وشرعوا في تبييض صفحاتهم بالقصائد الحماسية والمقالات النارية والخطب الرنانة مزاحمين بها زغاريد النساء، وإن كانت الأخرى عكفوا على تلطيخ صفحاتهم بالسواد مزاحمين به نواح الثكالى. إن سلوك أمثال هؤلاء يسيء إساءةً بالغةً لأولئك المثقفين الحقيقيين الذين يدركون أن الدور الحقيقي للمثقف إنما يتجلّى في أوقات المحن والخطوب، حين تلتبس الأمور وتختلط الأوراق وتتوارى الحقائق خلف أستار الخوف والشك، لا في أزمنة السلم والدعة والرخاء.

أما لماذا آثرتُ أن أنسب هؤلاء للقواقع المعتمة خلافاً لتلك العادة التي تأصّلت حتى غدت أشبه بعرف، وأعني عادة نعْتهم بالمثقفين البرجعاجيين، رغم أن في هذا النعت اللمّاح ما يغني عن سواه من نعوت تليق بهم، فذلك لسبب وجيه جداً وهو أن هذا المصطلح المركّب قد غدا مؤخراً أشبه بوسامٍ يفاخر بعض غلاة هؤلاء بتعليقه على أنوفهم المتعالية مباهين بما قد توحي به المفردتان المؤلفتان له من معاني الرفعة والسمو والتميّز، متخذين منه درعاً يتقون به سهام الاتهام بغموض المقصد والتباس الفكرة وضبابية المعنى، بكل الأحوال.. ربما لا تشكل تلك الفئة من المثقفين سوى أقلية صغيرة في مشهدنا الثقافي، ولكنها رغم ذلك تبدو أقلية مؤثرة، ربما لأن حصتنا منهم، نحن أبناء هذه المنطقة المأزومة تاريخياً، غير متناسبةٍ مع مستوى الحماس الفطري الشعبي المتأصّل في نفوسنا المولعة بتلك القيم التي لا يقيمون لها وزناً اليوم.. وفي ظل الوقائع الجسام التي نشهدها منذ اندلاع الجولة الأخيرة من جولات المجد والكرامة قبل نحو عام أو أكثر، هذه الوقائع التي وضعت ليس الكرامة العربية وحدها على المحك وحسب، بل ومعها الكرامة الإنسانية أيضاً، في هذه الأوقات العصيبة التي يبدو أن مصيرنا، ولزمنٍ طويلٍ مقبل، متوقف على كيفية تعاطينا معها، ليس المطلوب من المثقف أن يحذو حذو غسان كنفاني وناجي العلي وعبد الرحيم محمود، فيحمل روحه على راحته ويلقي بها في مهاوي الردى، ولا أن يموت موتاً يغيظ العدا، إنما المأمول منه على الأقل أن يحيا حياة تسرّ الصديق، أن يكون عند حسن ظنّ نزار قباني به، فيلحق بالقطار المسافر إلى الجبهة ميمّماً قلمه شطر الكرامة والمجد، أن يكتب كلمته ويمضي لا أن يدسّ قلمه في الرمال، فإن فعل فذلك أضعف الإيمان، وإن لم يفعل فقد حقّ عليه حُكم نزار.

العدد 1140 - 22/01/2025