فوز اليسار الأوربي وانتصارات اليمين

فادي إلياس نصار:

كعادتهم، بعد كل عملية انتخابية، يُحلّل الشيوعيون الفرنسيون النتائج، ليعلنوا بعدها رؤيتهم الخاصة، بكلّ صدق ولكلّ الشعب، وقد جاء تصريح زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي (فابيان روسل) بعد صدور نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، مباشرة، قائلاً: (إن اليساري الذي يعتبر نتائج الانتخابات التشريعية إيجابية عموماً، في الوقت الذي أفرزت فيه أكثر من76 نائباً (جديداً) من اليمين المتطرف، لديه قليل من الغشاوة على عينيه).

فماهي خلفية هذا التصريح؟

صحيح أن حصول تحالف الجبهة الشعبية الجديدة (اليساري) على 178 مقعداً، يعتبر نصراً على المعسكر اليميني، ورغم فرحتنا الكبرى (كشيوعيين) بذلك النصر، إلا أنه نصر ناقص وذلك يعود إلى:

أولاً_ إن المقاعد التي حصل عليها اليسار، موزعة على أحزاب الجمعية الأربعة (فرنسا الأبية، الحزب الشيوعي، الحزب الاشتراكي، الخضر)، وليست لمصلحة حزب واحد.

ثانياً_ يقف تحالف الجبهة اليسارية على حافة الانفجار، ذلك لأن الخلافات بين أحزابها مبدئية وعميقة، ولاتزال قائمة.

وبناء على ما سبق، نجد أن حزب التجمع الوطني (يمين متطرف) هو المنتصر الحقيقي في هذه الانتخابات، فقد ضاعف تقريباً عدد مقاعده (كان له 78 فأصبح له 142 مقعداً) وحصل على أكبر كتلة برلمانية (كحزب واحد)، إذ لا يوجد أي حزب آخر لديه وحده أكثر من 100 نائب، (كتلة الرئيس ماكرون والجبهة الشعبية عبارة عن ائتلاف عدة أحزاب).

 

اليسار على صفيح ساخن

تضم الجبهة اليسارية، إلى جانب الشيوعيين، أحزاباً أخرى ليس لها جميعها البوصلة ذاتها، فيما يخص السياستين الداخلية والخارجية، على حدّ سواء.

فعلى الرغم من أن الحزب الرئيس في الجبهة اليسارية الفائزة، حزب (فرنسا الأبية)، ينتمي إلى اليسار الراديكالي، إلا أنه يعتبر محور توترات كثيرة، فلا تزال الخلافات قائمة بين زعيمه ميلانشون والحزب الشيوعي، منذ أن أساء لهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وفي انتخابات البرلمان الأوربي.

أضف إلى ذلك أن الشيوعيين يختلفون مع (حزب الخضر) في العديد من الرؤى التي تخص المجتمع وقضايا الطاقة والمهاجرين وغيرها.

في المقلب الآخر نجد أن الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي كان، خلال فترات تسلمه الحكم، محطّ انتقاد حاد من النواب الشيوعيين، وصلت إلى حد الفضيحة، وكان اعتراضهم علنياً على سياسة فرنسا (الخارجية والداخلية) إبان حكم (هولاند) الاشتراكي.

وهنا لابد من ذكر بعض القضايا في السياسة الخارجية للحزب الاشتراكي، التي وقف النواب الشيوعيين ضدها بالمطلق (كمثال حي وقريب ولاتزال البشرية تعاني من نتائج سياسته الخارجية).

أولاً_ سورية الضحية!!

في الوقت الذي كان موقف الحزب الشيوعي واضحاً من الحرب على سورية، وبعد مرور عامين على بدايتها، دافع هولاند (اليساري) باستماتةٍ عن الخطة المقترحة من جانب فرنسا وبريطانيا لرفع حظر تصدير السلاح للمعارضة السورية.

وطالب قادة دول الاتحاد الأوربي، بتمديد العقوبات الأوربية على سورية.

كذلك عارض الشيوعيون الفرنسيون تسليم حكومة هولاند أسلحة (ثقيلة) إلى الفصائل المسلحة الإرهابية في سورية عام 2014، الأمر الذي فضحه الصحافي كزافييه بانون، في كتابه (في كواليس الدبلوماسية الفرنسية)، فقد أورد تصريحاً للرئيس هولاند شخصياً قال فيه: (لقد بدأنا عندما تأكد لنا أن الأسلحة ستكون في أيدٍ أمينةٍ.. وفيما يتعلق بالأسلحة الفتاكة، فإن أجهزتنا قامت بعمليات التسليم.

 

وكذلك فضحوا دعم فرنسا (في عهد الحزب الاشتراكي) لجبهة النصرة، وتشريع شراء النفط السوري المسروق، (يذكر أن وزير خارجية فرنسا الأسبق الاشتراكي (لوران فابيوس)، أطلق مقولته الشهيرة: إن النصرة تنجز شغلاً جيداً في سورية)، في إشارةٍ واضحةٍ منه إلى أن النصرة تبيع نفطها إلى الشركات الفرنسية العاملة في المنطقة ولا تتعرض لها، وفي مقدمة تلك الشركات تأتي (لافارج) عملاق إنتاج الأسمنت.

 

ضد نهب أفريقيا!!

كان موقف الشيوعي الفرنسي ومازال واضحاً ضد تدخل بلادهم في إفريقيا، وكان نوابه فتحوا النار عدة مرات على حكومة بلادهم بعد الإبادة الجماعية في (رواندا) عام 1994 التي أودت بحياة مليون رواندي (في عهد ميتران).. ومن بعدها خاضوا حرباً علنيةً (على صفحات جريدة حزبهم (لومانيتيه) ضد مجازر ارتكبتها حكومة هولاند الاشتراكي، في جمهورية مالي، لحماية مواقع إنتاج اليورانيوم التي تديرها شركة (أريفا) الفرنسية الحكومية، في دوله النيجر القريبة من مالي.

وناضل الحزب الشيوعي الفرنسي من أجل إلغاء اتفاق استعماري قديم، يُلزِم 14 دولة أفريقية، بوضع 85% من احتياطاتها الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي تحت سيطرة الوزير الفرنسي للرقابة المالية (حتى في عهد الرؤساء الاشتراكيين).

ولا ننسى أن كل القادة الأفارقة، الذين رفضوا تلك السّياسة الاستعمارية، كانوا إمّا يقتلون أو يتحوّلون إلى ضحايا انقلابات عسكرية (حتى في عهود الرؤساء اليساريين).

 

ليس حباً بأوكرانيا

في برنامجها الانتخابي، دعت الجبهة الشعبية الجديدة إلى (الدفاع بلا كلل عن سيادة الشعب الأوكراني وحريته وكذلك سلامة حدوده)، من خلال تسليم الأسلحة الضرورية، وإلغاء ديونه الخارجية، والاستيلاء على أصول القلة الذين يساهمون في المجهود الحربي الروسي، وإرسال قوات حفظ السلام لتأمين محطات الطاقة النووية.. دون التطرق إلى تدخلات العم سام ولا حتى لغطرسة حلف الناتو، في القارة الأوربية. فالقصة ليست حباً بأوكرانيا وإنما تدليس للناتو.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أي نوع من اليسارٍ هذا؟!

 

اليسار البريطاني والذئب بلير!!

تتغير صيغة سؤالنا السابق عند الحديث عن حزب العمال البريطاني، لتصبح: ما مدى خطورة اليسار البريطاني على شعوب العالم؟

صحيح أن حزب العمال، الذي فاز  بأغلبية الأصوات في الانتخابات التشريعية البريطانية، محسوب على يسار الوسط، إلا أن تاريخه يشي بأنه صديق لشعبه فقط (لمن يصوّت له)، وليس للشعوب المضطهدة، وهو عبارة عن اتحاد لجماعات معينة وفق مصالح آنية (حركة نقابات العمال، ومجموعة الجمعيات الاشتراكية وحزب العمال المستقل والجمعية الفابية والاتحاد الماركسي الاشتراكي الديمقراطي)،  وفي داخله تياران، الأول هو تيار اليسار الحقيقي (الماركسي ) بقيادة (جيرمي كوربن)، والثاني هو اليسار الذي فاز في الانتخابات، بزعامة (كير ستارمر) تلميذ الذئب الاستعماري (طوني بلير).

ويعتز (ستارمر) هذا بأنه هو مَنْ قاد حملة عزل (جيرمي كوربن (الماركسي)، من على رأس الحزب قبل عام، بسبب موقفه من القضية الفلسطينية، بتهمة (معاداة السامية)، قائلاً إنّ هذا أكبر إنجاز داخلي يفاخر به، ويستدعيه كلما أراد إقناع الناخبين بقدرته على تغيير البلاد.

فبعكس (كوربن) الذي لم يتغيب عن أي اجتماع أو مظاهرة مؤيدة لفلسطين ومنددة بالاحتلال الإسرائيلي والحصار، والذي حاربه أعضاء الحزب من اليهود، ومعهم الصحافة الإسرائيلية علناً. سارع (ستارمر) بعد فوزه مباشرة ليتعهد، في اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بمواصلة التعاون مع إسرائيل ضد (التهديدات الخبيثة).

صحيح أنه أكد في اتصال آخر للرئيس الفلسطيني (محمود عباس) أنه مع حل الدولتين، لكنه لم يشر ولو بكلمة واحدة إلى المجازر التي ارتُكبت بحق شعب غزة.

كما أكد (ستارمر) (اليساري فرضاً) للرئيس الأوكراني (زيلينسكي)، أن الدعم البريطاني لأوكرانيا لن يتراجع، وأنه بإمكان أوكرانيا استخدام صواريخ (ستورم شادو) البريطانية لضرب أهداف عسكرية داخل روسيا (بحسب تقرير نشرته وكالة بلومبرغ).

وأعلن (ستارمر) أنه سيرسل إلى حكومة كييف شحنة جديدة من صواريخ (بريمستون) المضادة للدبابات، و90 قطعة مدفعية ذاتية.

كذلك سارع مع وزير خارجيته فور صدور نتائج الانتخابات، وإعلان فوزه، لحضور قمة في واشنطن، للاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس حلف شمال الأطلسي.. في خطوة تأييد ودعم لتحركات الحلف ضد شعوب العالم.

 

الوريث الحقيقي لطوني بلير!

من الطبيعي أن يقف (ستارمر) ضد (كوربن) وتياره اليساري الحقيقي بل وأن يحاربه، ذلك أن الأخير كان في الصفوف الأولى  في المظاهرات المنددة بالحرب على العراق، عام 2003 ، فيما كان معلم (ستارمر)  الذئب  (طوني بلير) صاحب فكرة (عقيدة المجتمع الدولي)،  يصدر أوامره للمشاركة بقوة في عاصفة الصحراء وكل العمليات العسكرية، على العراق، التي استمرت عشرين عاماً، وراحَ ضحيتها مليون إنسان.

في فضاء البروباغندا يعد (ستارمر) من قادة الصف اليساري الإنكليزي، لكنه تلميذ نجيب من مدرسة (بلير)، بل وريث سياسته التي باركت تدخَّل المملكة المتحدة عسكرياً في (سيرَّاليون) في أيار (مايو) 2000، عملية (باليسر)، وقبلها في (تيمور الشرقية) عام 1999، وفي (كوسوفو) قادت القوات البريطانية تدخلاً عسكرياً قام به حلف الناتو).

أما على أرض الواقع، فإن اليسار صاحب الرؤية الأممية المناصرة للشعوب المضطهدة لم يفُز، بل فازت مدرسة هولاند وبلير.

فاز اليسار الذي يعتبر أن السياسة أهم من الفكر.

اليسار الذي يبرّر النيوليبرالية واحتلال الدول والحصار الدولي والتدخل في شؤون الأمم ويصفق للقطب الواحد، ويسكت عن اتفاقيات مُذِلّة للشعوب.

يسار يدعم تفتيت العائلة، ويروّج للمثلية، والشذوذ في مختلف مناحي الحياة، ويطبق برامج تخريب المجتمعات.  يسار يؤوي إرهابيي النصرة وداعش، ويرسل السلاح لتدمير الشعوب (سورية، العراق، اليمن وأوكرانيا)، يدعم غطرسة الناتو، ويبارك وحشية إسرائيل، هذا اليسار ليس ذاته اليسار الذي ننتمي إليه، والذي أنجب يوماً سلفادور الليندي، لومومبا، نهرو، وتشافيز، ولولا دا سيلفا.. وغيرهم.

من نافلة القول، أن بوصلتنا واضحة، دائماً إلى جانب الشعوب المضطهدة وقضاياها وأولها فلسطين.. فمن له أذنان فليسمع.

العدد 1140 - 22/01/2025