الانحطاط في مدار العولمة المتوحشة
كتب الأديب حسن. م. يوسف على موقع التواصل الاجتماعي قبيل العدوان الثلاثي على سورية: (ما من كلمة في اللغة تعبر عن وضاعة من يتوسلون لترامب كي يقصف سوريانا). ويظهر ذلك عمق الجرح الوطني ومدى الاستفزاز الفائق في مجاهرة الأتباع المغتصبين ثقافياً على أرصفة العولمة المتوحشة بلا خجل ولا حياء بخيانة الوطن والدعوة إلى تدميره وقتل شعبنا.
كنت قد عرضت ملخصاً عن المعولمين أمريكياً ودور الإعلام في قلب مفاهيمهم وتكوين وعيهم الجديد وتطور الظاهرة ومقاطع من المشهد الثقافي البديل في مقالتي السابقة (قناة الجزيرة والمعولمون الجدد – النور- العدد 811) والتركيز هنا يتمحورعلى التوسع في طبيعة الذين تشكل وعيهم بطريقة الاغتصاب في كواليس الإعلام وفضح خطابهم.
يمكننا تصنيفهم ضمن عدة فئات تشترك جميعها بروح الانهزامية، فعلاقتها بثقافة العولمة لم تُبنَ على قاعدة تثاقف ندّي ومساءلة نقدية، بل على الخضوع للقوة، وتختلف في أسباب جنوحها، فمنهم المأجور المكلّف رسمياً بنشر القيم الأمريكية وترويجها، وأغلب هؤلاء كتاب ومفكرون وإعلاميون وفنانون وسياسيون، ومنهم الانتهازي الباحث لنفسه عن إقامة مضمونة على سرير مريح في العالم المتغير، ومنهم المصاب بالفقر المعرفي فلم تسمح له سويته الثقافية برؤية المشهد بكليته وربط الخاص بالعام واللحظي بالتاريخي، ومنهم الحاقد الذي يستقوي بالأمريكي كالمتوسلين المذكورين، ومنهم الأحمق المعادي للعولمة الأمريكية بينما تحقق ممارساته على الأرض أهدافها، وأغلب هذه النوعية تنتمي للتيار الديني المتطرف.
ومن المفيد الإشارة إلى الحياديين الصامتين، وهم أقرب إلى المعولمين لافتقارهم إلى الرابط الوطني الذي يحتم حسم مسألة الاصطفاف في أوقات العدوان الخارجي الذي لا حياد فيه، فإما أن ينحّي المرء تلقائياً الخلافات والاختلافات جانباً ويقف في الصف الوطني بلا تردد، أو يصب صمته في مصلحة المعتدين.
خطاب المعولم يكشف هويته بنفسه، فهو يمتاز بترديد العبارات التبريرية الملقنة مثل (لا أحد يمكنه ادعاء امتلاك الحقيقة، والسؤال: من أعطاكم حق توزيع شهادات في الوطنية؟ وبلا تخوين) وغيرها مما مللنا سماعه في المناقشات الفضائية العبثية وينظر المعولم من جانب واحد إلى الحدث، فلا يعترف بالمؤثرات الخارجية ويعتبر الحديث عنها رمياً للأخطاء على الآخرين، ويبدي تعاطفاً مع جماعته الطائفية والمذهبية والعرقية في وضع نكوصي، مهما بلغ تحصيله العلمي ودرجة ثقافته وانتمائه الحزبي ومكانته الاجتماعية، ولا توجد في قاموس المعولم مصطلحات مثل العدالة الاجتماعية والصراع الطبقي والتنمية والقرار المستقل وحقوق الدول، فكلها تختصر عنده بالديمقراطية والحقوق الفردية والحرية من المنظور اللبرالي المتوحش وليذهب كل ما عدا ذلك إلى الجحيم بالنسبة إليه.
يستنسخ المعولم رؤية الولايات المتحدة التي تقسم العالم إلى دول خير، هي التابعة، الخاضعة لهيمنتها وتخدم مصالحها، ودول شر هي الرافضة لتلك الهيمنة المتمسكة باستقلاليتها، ويطلق أحكاماً ملقنة من نظرية نهاية التاريخ، ويمارس طقوس صراع الحضارات ويغطي انصياعه إلى هذا الاستنساخ القطيعي بالنبرة الانفعالية المرتفعة تجاه قوى الشر المفترضة، على أن ذلك هو موقفه الشخصي، ولا يكترث المعولم للقضية الوطنية ولا لمفهوم الاستعمار موجّهاً عداءه لقوى المقاومة والممانعة وداعماً اتفاقات السلام المذلة الموقعة مع الكيان الصهيوني بشروطه، كما يدعم التطبيع معه سواء أعلن ذلك صراحة أو لم يعلن.
المعولم هو منفذ مشروع أمركة العالم سواء كان مكلفاً رسمياً بذلك أو مسلوب الوعي، يتلقى تعليمات مراكز البحث الأمريكية التي تحدد له وجهته وعلى من عليه إن يوجه غيظه وشتائمه ومتى وكيف؟ فعندما تقرر المراكز الهجوم الإعلامي مثلاً على الرئيس الكوري الشمالي يتسابق المعولمون على ابتكار مبررات الهجوم عليه، وعندما تقرر استهداف السيادة السورية، نسمع صياح المعولم السوري ضد جيش بلاده الذي قدم مئات آلاف الشهداء في محاربة الإرهاب ومنع تحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير، وعند كل نصر جديد يقترب، يروج المعولم روايات الكيماوي الكاذبة نفسها، التي يؤلفها مخرجون فاشلون في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ويتعامل معها على أنها حقائق يستند إليها في توسله إلى الطغاة الأمريكيين كي يقصفوا وطنه، كما ورد مثلاً على لسان المعارض رضوان زيادة طالباً من الناتو قصف سورية كما قصفت كوسوفو على مدى ثلاثة أشهر وكما تمنى المعارض بسام جعارة على الجيش الإسرائيلي أن يقضي على ما دعاه (مرتزقة بشار ونصرالله) وكما ورد على صفحة مغتربة حاقدة من سيدات دمشق (م.ك ) على موقع التواصل الاجتماعي: (لم أكن أتخيل أن يوماً سيأتي أشعر فيه بسعادة بأن أمريكا ستقصف بلدي سورية) وغيرها مما يقشعر بدن أي مواطن سوري حقيقي من عرضه.
تعكس هذه الظاهرة أحط قيم التبعية التي أنتجتها ثقافة العولمة، وتشكل تحدياً خطيراً وامتحاناً وجوديا كبيراً، فعدونا اخترق حصوننا، ومكوناتنا الاجتماعية تمزقت شر تمزيق، وضاعت بوصلة أعداد متزايدة من الناس، والمعركة الثقافية ليست أقل إلحاحاً من المعركة العسكرية، الجبهة مفتوحة رغماً عنا في الصراع الحتمي بين السيادة والتبعية الذي يبلغ ذروته القصوى بعد تراكم الأعراض المزمنة من كيدية وتناحة وتصميم على العدوانية المفرطة طوال سنوات الحرب السبع على سورية كنا نحتاج فيها إلى أقصى درجات العقلانية والوعي الوطني والوحدة الوطنية وأخلاقيات الحوار.