حرب باردة على صفيح ساخن
د. نهلة الخطيب:
توالت على السياسة الخارجية الروسية ثلاث مراحل بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، المرحلة الأولى بدأت بعهد بوريس يلتسين ووزير خارجيته أندريه كوزيريف، وكانت سياستهما مبنية على الإيديولوجيا الليبرالية والتحول الديموقراطي والتعددية السياسية والانفتاح الاقتصادي والتقرب من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، فكانت تجربة مخيبة للآمال وأكدت أن روسيا ضعيفة غير فاعلة ومشتتة. المرحلة الثانية بدأت بتغيير وزير الخارجية الروسية عام 1995، وجاء يفغيني بريماكوف بسياسته توازن القوى، وأن روسيا لن تعود إلى مجدها إلا من خلال موازنة القوى مع الدول الأخرى والولايات المتحدة الأمريكية، وأن القوة العسكرية هي الأساس، المرحلة الثالثة بدأت بتنازل يلتسين عن السلطة لفلاديمير بوتين عام 2000، الذي قدّم مبادئ أساسية لسياسة روسيا الخارجية، التي تهدف في جوهرها إلى استعادة روسيا مكانتها الدولية والإقليمية، وإعادة تشكيل منظومة عالم متعدد الأقطاب وإنهاء الهيمنة الأمريكية.
فبدأ بعمل إصلاحات داخلية واقتصادية وعسكرية وتبنّى بوتين بريماكوف وسياسته بتوازن القوى والهوية القومية وإعادة أمجاد القيصر، فمازج بين القوة والقومية، وكان أول تغيير بالسياسة الخارجية الروسية عام2007، في مؤتمر السلام العالمي بميونخ عندما قال بوتين: (نحن لم نعد ضِعافاً نحن قوة لا يستهان بها، ولا يوجد نظام وحيد القطب وانما نظام متعدد الأقطاب ونحن جزء منه ولسنا أتباعاً لأمريكا).
في المعادلات الدولية القوى الكبرى تنظر أين المناطق الجيواستراتيجية بالنسبة لها، وتنظر إلى عوامل الضعف والقوة لها، فخلال الحرب الباردة كانت أوربا هي منطقة الارتكاز الأول بين القطبين: الاتحاد السوفييتي في أوربا الشرقية، والولايات المتحدة الأمريكية في أوربا الغربية، فالسوفييت يرون أنه يجب أن يحجَّم نفوذ أمريكا، وأمريكا ترى أن الاتحاد السوفييتي يجب أن لا يتمدّد خارج إطار معين، وتجسد ذلك التنافس بوضوح أثناء الحرب الروسية الأوكرانية الحالية. كانت أوكرانيا بسبب موقعها الجيواستراتيجي نقطة صراع تتأرجح بين مدّ وجزر بين الطرفين الروسي من جهة، والأمريكي والغرب من جهة أخرى منذ عام2014، فهي أزمة تصاعدية وليست وليدة البارحة، تحالف أوكرانيا مع الغرب وأمريكا ودخولها بحلف الناتو، يعني أن الناتو أصبح على الحدود الروسية، ومن الناحية الاستراتيجية هذا يهدد الأمن القومي الروسي، وهي حالة تتميز بضيق الوقت لصنع القرار، فأطلق فلاديمير بوتين عمليته الخاصة ضد أوكرانيا في 24/2/2022، دعمت أمريكا وأوربا أوكرانيا بكل الإمكانات المتاحة عسكرياً ومالياً مع عقوبات عسكرية واقتصادية، وعزل سياسي ضد روسيا زادت كثافتها منذ بداية العملية الخاصة. قبل أيام أعلنت روسيا إجراء استفتاء لضم أربعة أقاليم، وهي دونيتسك ولوغانسك في الشرق وخيرسون وزابوروجيا في الجنوب، وهي مناطق تشكل 20% من إجمالي مساحة أوكرانيا وهي ليست تحت السيطرة الروسية بشكل كامل، فنحن نشهد تغيّر خارطة سياسية وجيوسياسية وأمنية، والخطير أنها لم تتشكّل وفق اتفاقيات بل وفق أعمال عسكرية.
أصدر بوتين قرار الضم في 30/9/2022 وأصبحت الأقاليم الأربعة أراضي روسية وفق القانون الروسي وتحت حماية القوات العسكرية، تسري عليها العقيدة الروسية عقيدة الدفاع عن الأرض والشعب، وأيّ اعتداء أو تهديد عليها هو اعتداء على روسيا، وهذا ما جهز له بوتين داخلياً بالتعبئة الجزئية استعداداً لأي خطوة مرتقبة من أوكرانيا أو الغرب على ما أقدمت عليه روسيا بالضم. دخلت روسيا في مرحلة اللاعودة يغلب عليها طابع التصعيد، وفي صراع أوسع مكون من صراع صغير وهو الحرب الساخنة مع أوكرانيا لا تستعجل فيه الحسم العسكري، أعتقد لا أهمية له أمام الصراع الأكبر وهو الحروب الطاقية والحروب الاقتصادية مع الغرب ومن سيحسم هذا الصراع ومن سيصرخ فيه أولاً؟ وبالتالي سيكون الحسم تلقائياً في الساحة الأوكرانية، ما لم يدخل على الخط استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، عندئذٍ سندخل في منعطف خطير.