الأم | قصة قصيرة
بشار حبال:
شاهدتها على رصيف المحطة تتحرك بتوتر وبنزق يوم حار، امرأة مليحة الوجه رشيقة القامة ترتدي بنطال جينز ضيق وبلوزة فضفاضة بلون أبيض، قذفت حقيبة صغيرة في صندوق الحافلة وتركت للمعاون أن يكمل الباقي، رتبت حقيبة يدها على محيط صدرها وبعض من خصلات شعرها خلف أذنها وهي تتقدم إلى باب الحافلة، ثم صعدت وغابت بين المقاعد. تابعت ما بقي من سيجارتي أتأمل حركة المسافرين بوجوههم الرصينة والمتعبة، وحدهم الأولاد مازالت تشرق على وجوههم البسمات بمغامرات السفر، أخذت سحبة طويلة من سيجارتي وكأنها السيجارة الأخيرة ثم رميتها على الأرض وصعدت مع الصاعدين إلى الحافلة، رقم مقعدي كان إلى جانب تلك المرأة (من أجل الحكاية) حيث تركت وجهها ملصقاً بالزجاج يراقب الفراغ في الخارج، جلست إلى جانبها ولم أشغل بالي عندما عرفت أنها احتلت مكاني قرب النافذة، بقيت هي تتابع انسحاب الطريق تحتنا بعد انطلاق الحافلة وكأنها وحيدة، وأنا فتحت الجريدة التي أحملها معي وذهبت بعد طيها عدة طيات إلى الكلمات المتقاطعة أشغل بها ضجر الطريق .
تلك المرأة ليست غريبة عني وأعرفها منذ زمن بعيد وهي تعرفني أيضاً، وننتمي إلى البلدة ذاتها، لكننا لم نلتقِ ولم نتحدث قبل ذلك، وأذكر جيداً يوم تزوجت صديقها في العمل ورحلوا معا إلى حلب، وكيف لاكتها الألسن ثم غيبتها الأيام والأحداث، ربما هذا ما جعلها تنكمش على نفسها دون قلق أو اهتمام.
لكن كلمة مؤلفة من خمسة أحرف اعترضت طريقي، فكرت ولكني لم أجد الكلمة المناسبة، قلت بصوت مرتفع متقصداً أن تسمع: كلمة من خمسة أحرف بمعنى الضياع؟ ودون أن تزيح وجهها عن النافذة قالت: التيه.. ثم التفتت إليّ وقالت: التيه.
وزعت وكما هي الأيام الأحرف بين بياض وسواد المربعات فكانت الكلمة الصحيحة.
شكراً لك، قلت وأنا أنظر إليها: إذا حاصركِ التيه استشر قلبك.
نظرت إليّ مغالبة ابتسامة ووجع من طرف فمها وقالت: (ما في حدا لا تندهي ما في حدا)! فيروز تنقذنا دائماً وتزيح الهم عن القلوب.
استشر قلبك، أحببت ما قلت ولكني أعتقد أننا فقدنا قلوبنا جميعاً كرفيق وصديق مرة واحدة، عن أي قلوب تتحدث، لقد ماتت تلك العضلة النشيطة بالحب والحياة، وفقدنا البصيرة في حرب مجنونة قلبت عالينا سافلنا، قلوبنا سوداء مثل زفت الطريق الذي نركض فوقه الآن، ومثل دخان الحريق المشتعل في هذه البلاد، أي قلب تتحدث عنه، قلب الأم التي فقدت كل شيء الزوج والبيت والأولاد والعمل، قلب الجد والأعمام الذين طردوني مثل كلبة جرباء عندما استشهد.. أو قتل زوجي (لم تعد تهمني التسمية) وسرقوا أولادي، قالوا إنني غير صالحة لتربية أولادي على الدين القويم؟ شيء مضحك! أليس شيئاً مضحكاً؟ هل تحتاج العصافير إلى دين كي تربي فراخها، هل تحتاج الذئبة إلى دين كي تحمي جراءها؟ قل لي هل تحتاج النباتات إلى دين كي تزهر وتلون الحياة؟
ها.. لماذا لا تتحدث؟!
قلت مبتسماً: أحب أن أستمع أكثر، إضافة إل أنك لم تعطيني أي فرصة للكلام، أرجوك تابعي!
عن أي قلب تتحدث وأنا أعود وحيدة أجر أذيال الخيبة إلى بيت أهلي، أبي وأمي وإخوتي لم أرهم منذ تزوجت، أي منذ أكثر من عشر سنوات، بالأساس هم نسوني لأنني تزوجت من غير طائفتي، وحدها أمي كانت تحن عليّ ببعض الكلمات على الهاتف. وطائفة زوجي التي ألحقت بها رغماً عن أنفي لم تعترف بي كأم، أنا أم غير صالحة!؟ لكنهم لا يعرفوني بعد ولا يعرفون قلب الأم حين تتحول إلى ذئبة إذا حوصرت، هذا الأمر بعيد عن شواربهم، أولادي سأعود من جديد لاستردادهم رغماً عن الجميع، رغماً عن الأديان والطوائف والقانون، أولادي لحمي الحي وما بقي لي بعد هذا الدمار العميم.
أنا أعرف ما يريدون وحجتهم السخيفة ونفاقهم ابتزاز رخيص منهم للوصول إلى ما يريدون، هل تعرف ماذا تريد تلك الوحوش ودينهم القويم؟
وماذا يريدون؟ سألتها.
يريدون وبالقلم العريض وخاصة (ختيار) النحس أبا زوجي أن يشاركني مناصفة مستحقات زوجي الشهيد، رغم أنني لم أستلم ليرة واحدة حتى الآن، هو ابنهم يريدون حصتهم من ميراثه القانوني وأكثر، رواتبه وتعويضاته بعد استشهاده، حصتهم من ثمن الدم، سمعتهم يتحدثون بذلك مع بعضهم البعض همساً.
ليكن، سأشتري أولادي بدم أباهم مرة واحدة وللأبد، وأعلن على الملأ طلاقي من الطوائف والأديان، هي مبادلة ليست وضيعة، الدم مقابل الأولاد، شهيد مقابل حياة الأولاد، سيكون سعيداً زوجي أن دمه ليس بالرخيص.
أخذوا أولادي كرهائن حتى يقبضوا الثمن، سأعود إليهم وفي حقيبتي مسدس زوجي ونقود ثمن دمه وأجعلهم يختارون بين النقود والأولاد، أنا متأكدة أنهم لن يترددوا بالخيار، النقود أهم من الطائفة ومن الأديان، أعرف جيداً تلك الشريحة الجاهلة والخسيسة، وسأكون سعيدة للمبادلة، أما إذا حصل خطأ في الخيار (وهو ما لا أتمناه) عندئذٍ سيعلمون ماذا يمكن أن يفعل قلب الأم إذا سرق أحدهم أولادها.
أنت تصدقني أليس كذلك؟ هززت برأسي وأنا أبتسم مشجعاً.
28/8/2016