حول الجدل المتعلق بالاتجاهات الاقتصادية في البلاد

يونس صالح:

ازداد الجدل بين الاتجاهات الاقتصادية والسياسية في السنوات الماضية حول ملكية القطاع العام ودوره، فهناك المؤيد لاستمراره، وهناك الداعي لتحويله إلى قطاع خاص، ولكل أسبابه وأسانيده.

ومنعاً لأي لبس، أو الدخول في جدل جانبي، أبادر إلى القول بأن وجود قطاع عام ليس قضية مطروحة للنقاش، فإن هذا القطاع موجود، وسيظل موجوداً حتى في أعتى الدول رأسمالية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن القضية التي تعرض على بساط البحث والنقاش هي: ما حجم هذا القطاع العام؟ وكيف ترفع كفاءته؟ وإذا كان قد توسع أكثر مما ينبغي فكيف نعود به إلى الحجم المعقول؟ والغرض الرئيسي من إثارة هذه التساؤلات هو رفع كفاءة الاقتصاد الوطني، وتحسين أوضاع الشعب، وليس مصلحة مجموعات ضغط، أو تغليب لمصالح فئة على فئة أخرى.

بعد هذه المقدمة الضرورية، قد يتعجب البعض من القول بملكية القطاع العام للشعب، وقد يقول: من يملك هذا القطاع إذاً؟ إن التطبيق يظهر أن الذي يمتص معظم خيرات هذا القطاع هم فئة محدودة، تسخّره لصالحها في حالات ليست قليلة، دون أن يستفيد منه السواد الأعظم من الشعب، وتظهر هذه الحقيقة جلية في مجموع الخسائر التي تعانيها زمرة شركات القطاع العام، فضلاً عن استهلاك الآلات، والفقد والضياع في استخدام المواد الأولية، وسوء تخزين المنتجات النهائية، كما أن بعض مخزون المنتجات النهائية ليس له من قيمة سوى ما سُجّل في الدفاتر والسجلات، مما يزيد قيمة الخسائر التي تعانيها هذه الشركات.

صحيح أن خسارة بعض الشركات كانت لأسباب اجتماعية، وهي توفير بعض السلع بأسعار رخيصة، وهي ما يطلق عليها حالياً اسم (الشركات المخسّرة) وليس الشركات الخاسرة، ولكن عدد هذه الوحدات قليل بالنسبة للمجموع العام، وصحيح كذلك أن هناك بعض الأمثلة من شركات القطاع العام الرابحة التي تحقق منافع وأرباحاً لا يمكن إغفالها أو التقليل من شأنها، ولكن عددها أيضاً صغير بالنسبة للعدد الإجمالي لشركات القطاع العام.

ومن الصحيح أيضاً، وهو الأهم، أن معظم شركات القطاع العام على مختلف أنشطتها- صناعية وزراعية وخدمية- إما خاسرة أو تحقق معدل عائد منخفضاً جداً مقارنةً بما ينبغي أن يتحقق في الواقع، ويرجع السبب في ذلك كما أظن إلى أمرين رئيسيين:

الأول: قصور الشعور بـ(الخدمة العامة) عندنا بصورة عامة، بحيث غالباً ما يسعى الموظف العام إلى تحقيق صالحه الشخصي أولاً، وليس الصالح العام، وعندما لا يكون صاحب رأس المال محدداً فإن الهدر فيه وتبذيره يصبح شيئاً طبيعياً ومتوقعاً.

والثاني: غياب الحوافز، نتيجة الدخول الضعيفة للعاملين، وتفشي البيروقراطية، والفساد، وغياب المحاسبة، وعدم وجود استقلالية للقطاع تتيح له إمكانية حل ما ينشأ من صعوبات بصورة دينامية، وارتباط القطاع العام بالسوق ارتباطاً واهياً، وعدم مراعاته لمتطلبات التنمية وحاجات المجتمع بصورة عامة.

لهذا نشأت فكرة تمليك وحدات القطاع العام للعاملين فيه، أو لأفراد الشعب، وقد أخذت هذه الفكرة مجراها إلى التطبيق في كثير من البلدان، وتتنوع أسباب الدعوة إلى ذلك ما بين إيديولوجية واقتصادية واجتماعية.

والناحية الإيديولوجية يكمن محتواها، كما يقول دعاة تلك الفكرة، في إدخال العديد من التعديلات على النموذجين: الرأسمالي والاشتراكي.

ولهذا أصبحنا نشاهد قطاعاً عاماً في النظم الرأسمالية، وملكية خاصة في النظم الاشتراكية.

ومن الناحية الاقتصادية، فإن الدعوة إلى تمليك وحدات القطاع العام من قبل الأفراد تنبع كما يدّعي دعاتها من الرغبة أولاً في القضاء على بعض المشكلات الاقتصادية التي تواجه كثيراً من الدول، ومن هذه الأسباب رفع معدل العائد الاقتصادي الذي يمكن أن يتحقق في هذه الوحدات.. فكثيراً ما يخفض معدل العائد على رأس المال، بالمقارنة مع نظيره في القطاع الخاص، غير أن البعض يعترض على ذلك قائلاً: إن كثيراً من وحدات القطاع الخاص تعاني أيضاً من الخسائر، فماذا سوف يكسب المجتمع من هذا التحول؟ وثانياً تقليل الفقد والضياع اللذين يحدثان في كثير من وحدات القطاع العام، وثالثاً تخفيف عبء الإدارة عن كاهل الحكومة ووحداتها المختلفة التي أصبحت مثقلة بالخدمات التي تقدمها من صحة وتعليم ورعاية اجتماعية وأمن وغيرها.. وهذه جوانب اجتماعية حيوية لا غنى عنها، ورابعاً حصول الحكومة على إيرادات إضافية هي حصيلة بيع أسهم الشركات. أما من الناحية الاجتماعية فإن تمليك الأفراد للموارد الإنتاجية ينمي لديهم الحوافز الإنتاجية ويدفعهم إلى مزيد من الإسهام في حل قضايا المجتمع.. إلا أن هناك عوائق تعترض تطبيق هذه الظاهرة، ولعل أهمها:

هي اختيار الوحدات التي يتم تمليكها للقطاع الخاص، وهنا يثور التساؤل: من الذي سيشتري، وبأي ثمن؟ وهل الحكومة على استعداد لبيع هذه الوحدات بأثمان تقل عن تلك المسجلة بدفاترها، وثانياً المقاومة التي تبديها المجموعات المستفيدة من بقاء القطاع العام بالأوضاع الراهنة، ومنها أيضاً بعض المستفيدين من غياب الرقابة الإدارية والمالية التي سوف تنتهي بمجرد التحول إلى الملكية الخاصة.

وأخيراً، لا شك أن مصير القطاع العام وإدارته ودوره في عملية التنمية الشاملة تحتاج إلى دراسة معمقة، لأن استمراره بهذا الشكل لم يعد يلبي حاجات التطور، كما أن القطاع الخاص يحتاج كذلك إلى دراسة، لأن تجارب الكثير من البلدان التي سارت على هذا الطريق فقط، لم تستطع أيضاً تحقيق التنمية الشاملة، والأمثلة كثيرة على ذلك، ربما تحتاج إلى طريق ثالث يكون لكلا القطاعين دور في عملية التنمية الشاملة.

 

العدد 1140 - 22/01/2025