ماذا عن تجديد الحركة السياسية العربية؟
إن تجديد الحركة السياسية في الواقع العربي هو عملية معقدة، ويختلف حول ذلك الباحثون. إلا أن الرأي الأكثر تماسكاً يؤكد ضرورة ربط هذا التجديد بإعادة العمل على الجانب النهضوي الذي كانت بداياته في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. والتي أفرزت مجموعة من المنوِّرين الذين أحدثوا آنذاك تأثيراً واسعاً في وعي الجماهير الشعبية. ويتطلب هذا الربط، وجود مقدمات اجتماعية واقتصادية ملائمة لذلك. إلا أن هذه المقدمات، بسبب تخلف البنى الاجتماعية والاقتصادية وما نتج عن ذلك من سيطرة الفكر الغيبي على عقول معظم الجماهير العربية ووعيها ، لا تزال ضعيفة نسبيا. ومما عزز ذلك، هو الانكسار الذي حدث في الحركة النهضوية تلك، وكانت له نتائجه الخطيرة وأسبابه الداخلية والخارجية. وأبرزها:
1- التخلف المجتمعي الذي قاوم بضراوة كل فكر نهضوي. وللأسف إن هذا التخلف، كان مدعوماً من الخارج الاستعماري الذي كان يرى في تطور الحركة النهضوية في الوطن العربي ما يلحق الضرر بمصالحه.
2- نشوء أنظمة قمعية في هذه البلدان، مدعومة من الخارج الذي وضع أمامه مهمة تهميش الشعوب العربية وحصر العمل السياسي في النخب فقط. وحوربت الأفكار النهضوية بشراسة مما أحدث فراغاً كبيراً ملأه الفكر الغيبي الذي يبحث عن الخلاص ليس في الأرض، وإنما في السماء. إذاً، انهزام الفكر النهضوي في بداية القرن العشرين، كانت له نتائجه الخطيرة التي نرى آثارها الآن في الهزائم التي تعيشها الدول العربية، وفي الانكسارات المتتالية.
إن الحركة السياسية التي نشأت فيما بعد، وبالرغم من حيويتها في الفترة الأولى، بدأت تفقد وهجها الذي رافقها في بداياتها عندما وضعت على المحك حينما تسلمت في عدد من البلدان مقاليد السلطة. فبدلاً من أن تضع مشروعاً سياسياً نهضوياً، وقعت أسيرة للفكر السلفي وإن اتخذ أسماء أخرى. وهذا ما شاب كلا الحركتين، القومية والاشتراكية، اللتين فقدتا وهجهما بسبب غياب أي مشروع نهضوي لهما، وبسبب عدم ديمقراطيتهما، مما أدى إلى خيبات أمل كبيرة جداً لدى الجماهير الشعبية التي كانت ترى فيهما في فترة من الفترات، منقذاً من حالة الركود والتخلف التي عاشتها الشعوب العربية.
إذاً، ما هو المطلوب الآن؟ هل الحديث عن ضرورة تجديد الحركة السياسية وتكرار ذلك يفيد بشيء؟
إن هذا التجديد لن يحدث إذا لم ترافقه حركة نهضوية نضالية تهدف إلى التطوير المجتمعي والتطوير الفكري، والتطرق إلى ما يعيق ذلك بشجاعة، حتى ولو بدا للوهلة الأولى أن ذلك سيثير غرائز الكثير من الناس.
إذاً، مسألة الفكر النهضوي الذي هو أساس تجديد الحركة السياسية، يجب أن يبنى على أرضية ترفض التسليم بالحقائق المطلقة. ترفض جعل كل شيء رهن عالم الغيب. هذه الأفكار النهضوية يجب أن تكون مؤسسة على أرضية ديمقراطية أيضاً: حرية الرأي وتباين الأفكار، وضد أي جوانب تكفيرية، وأشياء أخرى كثيرة. تلك التي تؤسس لتجديد الحركة السياسية في البلاد. تلك الحركة التي ستكون قادرة على وضع مشروعها الوطني بكل امتداداته بدءاً من الداخل. وإلا سنبقى نعيش بسلسلة من الأحاديث التي لا تنتهي دون أن نخرج بأية نتائج إيجابية. إن تجديد الحركة السياسية في البلدان العربية، يبنى على المشاريع، إذ لا توجد اليوم حركة سياسية قادرة على وضع مشروع إنمائي وتجديدي ووطني واضح، بسبب ما تكلمنا عنه أعلاه. إذاً، فليجر العمل من أجل إعادة الفكر النهضوي إلى الشارع، هذا الفكر الذي يجب أن يترافق بوضع برنامج وطني نهضوي شامل، يلامس كل مناحي الحياة، ويقوم على أرضية ديمقراطية حرة يبتعد عن الإنشاء، ويتعامل مع الوقائع. ذلك ما تتطلبه المرحلة. وإن الحكم التاريخي على القوى السياسية القديمة سيكون قاسياً جداً، إن لم تستطع أن ترتقي إلى مستوى المهام التي تتطلبها المرحلة، ويتطلبها العصر.