الإسلام السياسي.. أداة الحلف «المقدس»

 ظهر مصطلح (الحلف المقدس) في مقدمة البيان الشيوعي الأول 1847 للدلالة على تحالف قوى أوربا العجوز، من البابا والقيصر إلى ميترنيخ وغيزو، ومن الراديكاليين في فرنسا إلى الشرطة في ألمانيا، لملاحقة شبح الشيوعية والتضييق عليه (بيان الحزب الشيوعي /مختارات ماركس وإنجلز ج1 ص48).

وإذا كان المصطلح قد غاب عن التداول في اللغة السياسية والإعلامية تدريجياً فليس مرد ذلك إلى غياب الحلف نفسه عن مسرح الصراع، بل العكس، فالحلف مستمر وكل المعطيات التاريخية تدل على ذلك، منذ تأسيس تيودور هرتزل للحركة الصهيونية في الستينيات من القرن التاسع عشر أداةً بيد القوى الرأسمالية، مثلها مثل خصومها من النازية والفاشية إلى كل القوى الدينية المتطرفة من مسيحية وإسلامية ويهودية وغيرها، والأدوار التي لعبها هؤلاء كدور بابا الفاتيكان في تحريض شعوب الكتلة الشرقية دينياً، ودور آل سعود في إرسال آلاف المجاهدين لقتال (الكفّار) السوفييت، بعيداً عن الصراع العربي الصهيوني، ودور الديلي لاما في تأجيج النار تحت الرماد الصيني، وحتى بعد انهيار المنظومة الاشتراكية التي كانت الهدف الرئيسي للحلف المقدس بعد الحرب العالمية الثانية، فالحلف مستمر وحدوده الجغرافية توسعت وتطورت أدواته ووسائله، وكان يتجسد بصيغ متنوعة في مراحل تاريخية مختلفة لمواجهة أية مخاطر ممكنة تمثلها القوى التقدمية العلمانية على ديمومة الإمبراطورية المالية مهما بلغ صغر حجم هذه القوى.

وقبل نصف قرن مضى ومع المد السريع لخفافيش الهيبيز ومنظري النظّام الأدبي في الثقافة الغربية، كان الحلف قد أصبح قوة فعالة قادرة على الهجوم واختراق حصون الخصوم بجماهير استفحل اغترابها، وقد تحول إلى كيان يحط بكل ثقله على الأرض، ولما كانت نجاحات الحلف في جر حشود وراءه من جماهير أضاءت حضارتها وثقافتها وحياتها الاجتماعية الثورات الفرنسية والعمالية والطلابية، فقد كان من السهولة جداً على حراس الإمبراطورية أن يحشدوا وراءهم شعوباً ما تزال قابعة في قوقعتها، وتفصلها عن أضواء تلك الحضارة قرون من ظلمة التخلف، لتجنيدها وتضخيم كيان الحلف المقدس بها، خاصة أن الشبح (الكافر) بات يحوم حول تخوم القدس ومكة ومنابع النفط الدفين تحت رمال الصحراء والغيب الضاغط فوقها، وخاصة أيضاً أن قابلية  التراث الثقافي لهذه الشعوب داخل القوقعة القاسية، ورخاوته، لا يتطلب اختراقه لأكثر من عميل في إدارة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ليهندس وهو يشرب قهوة الصباح في وزارة الخارجية البريطانية علاقات بلاده بالجماعات الإسلامية، وليصبح  الإسلام السياسي بعد ذلك الأداة الرئيسية للحلف المقدس مطلع القرن الحالي.

لقد ضم حراس الإمبراطورية خصومهم من الإسلام السياسي، وهم على قمة هرم الحضارة المعاصرة، إلى حلفهم المقدس الذي هو حقيقة كيان ذكي متطور مستمر عن صورة بدائية استبدادية دموية متجذرة أصلاً في تاريخ منطقتنا، حلف قزم من حيث مكوناته وعملاق من حيث أثره العميق وفعاليته في المجتمع العربي، فصاحب الامتياز فيه هو التيار السلفي حليفاً منغمساً في السلطات المتعاقبة ضد الشعب، منذ العصر الأموي- حسب الطيب تيزيني- مع أن معظم الدراسات تنسب منشأه إلى تناقضات التركيبة الطبقية للعصر العباسي الذي صار الخليفة فيه حاكماً ومشرّعاً معاً ينتقي من الأحاديث النبوية ما يناسب ترسيخ سلطانه، وتحكمت فيه شرائح من الملاكين الأرستقراطيين والتجار ورجال الحاشية الملكية، ما أدى إلى شل الخلافة وانحدار الدولة والمجتمع إلى هاوية التخلف والجهل بسبب الجمود والتحجر لدى صانعي هذا التخلف الذين عملوا على تكريس الجانب الغيبي للدين وتحريم البحث العلمي والفكر الفلسفي ووضعهما بمنزلة البدع، متمسكين بسيرة النبي محمد والسلف الصالح.

وحين استغل ذلك الانحدار القادة العسكريون العثمانيون وأعلنوا أنفسهم خلفاء على الدولة الإسلامية، زادوا من الصبغة العنفية للتيار السلفي ورفعوا شعار (من تمنطق فقد تزندق) وصار التجهيل منهجاً يستند على أوامر وفتاوي الإمام أبي حامد الغزالي الذي قضى حياته في الحرب على الفلسفة وعلومها وأعلامها في مجموعة من المؤلفات من أهمها (تهافت الفلاسفة، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، وموسوعة إحياء علوم الدين التي ركزت على تخليص الأمة من الأفكار التي تؤثر على أعضائها فتحرفهم عن جادة الحق، وعلى تربية الأولاد تربية إسلامية حقيقية – حسب مفهومه). وقد استخدم الغزالي أسلوباً يفلسف النص الديني خلافاً للشيخ ابن تيمية (661 /728 هجرية) الذي تابع في ما يزيد على ثلاثمئة مؤلف، من موقع الغزالي، مهاجمة الفلسفة ولكن بالنص الديني بذاته (توقف الاجتهاد حصر النص تحت بند الحفظ الغيبي والترديد الآلي( ص30 من كتاب حداثة العرب وعرب الحداثة / محمد علي جمعة)، وفوق ذلك أرجع كل تخلف المسلمين إلى الفلسفة وما اتصل بها، وتميز ابن تيمية في الفقه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبوقوفه أمام من يعتبرهم التيار السلفي أعداء الإسلام من أصحاب الملل والنحل والفرق والمذاهب (الباطلة) حسب زعم التيار (صوفية، إسماعيلية، نصيرية وروافض وملاحدة وجهمية ومعتزلة وأشاعرة) وكان هذا هو رأي السلطة السياسية في عصره،كما يعتبر التيار السلفي حتى يومنا هذا مؤلفات ابن تيمية وردوده ما تزال أقوى سلاح بعد كتاب الله وسنة نبيه للتصدي لما يسمونه (الفرق الضالة والمذاهب الهدامة) مثل البعثية والقومية والاشتراكية والبهائية والقاديانية.

مع ذاك التطرف والإقصائية الفائقة تحول المجتمع والفضاء الفكري الإسلامي القابع فوقه إلى أشد حالات الظلامية والاتباع الأعمى والتقليد والجهل والتخلف العميقين ومع ذاك الواقع الغيبي المعبأ أصلا بإرث قبلي رافض لمبدأ المساواة، بصفته (رغبة في القضاء على الحكم والخلافة). ومع تباين تركيبة طبقية جديدة من حكام ورجال دين فأرباب السيوف فأرباب الأقلام، فذوي المهن في المدن، ثم الفلاحين وأخيراً الرقيق فان الصراع التراكمي الطبقي الجوهري لم يجد متنفساً له إلا عبر التمايز العرقي، ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر انقسمت الآراء بحدة بين مؤيد لحكام عسكريين عثمانيين عنصريين يرى فيهم ورثة شرعيين للخلافة وحماة لديار المسلمين من الغرب الملحد، ومعارض يرى في أولئك الذين ازدروا وأذلوا العنصر العربي سارقين لخلافة عليها أن تبقى للعرب، فالإسلام عربي وقيادة المسلمين يجب أن تكون للعرب الذين فقدوا امتيازاتهم مع أن المؤيدين والمعارضين على حد سواء متفقين أيديولوجيا على العودة إلى النقاء الإسلامي الأول، وعلى قوة الرابطة الدينية الغيبية، فالتجهيل حاجة لا غنى عنها لسلطة كل منهما.

كان على رأس أولئك المعارضين محمد بن عبد الوهاب وهو من منطقة سافلة نجد جنوب الجزيرة العربية، درس على يد شيوخ السلفية (الملا حمد الجميلي، الشيخ أحمد بن كوله) في نجد والموصل، الفقه الحنبلي وأسس الحركة الوهابية ككيان سياسي اجتماعي إسلامي المضمون والمظهر يستمد منه كأمير للحركة تفسيراته حول التخلص من (الأوهام والبدع والخرافات والشوائب( التي ألحقت بالإسلام كعقيدة)، وقد تمكنت الحركة من فرض نفسها بقوة السيف على حواضر نجد بداية، ثم توسعت لتنتزع من العثمانيين أوائل القرن التاسع عشر مكة والمدينة وتقيم دولة مستقلة عن السلطنة.

ولا بد هنا من الوقوف على التحالف المقدس البديل الجديد الذي نشأ بين الحركة الوهابية وآل سعود تحت اسم (اتفاق الدرعية)، وسأنقل أجزاء من النص عن مادة بعنوان (البيئة التاريخية للوهابية) للكاتب حسن الخلف، نشرت في جريدة (الأخبار) اللبنانية و(النور) السورية، واعتمدت على وثائق محلية ذات مصداقية وبعيدة عن الطابع الأدبي، إذ يقول النص عن اتفاق الدرعية: (توجه عبد الوهاب إلى الدرعية واتفق مع ابن سعود حاكمها، وقضى الاتفاق أولاً بأن لا يعترض الشيخ على أكل ابن سعود (الحرام) (هكذا وردت في المصادر النجدية- وهي الضريبة التي كان أهل نجد يسمونها القانون) وهنا وافق الشيخ بشرطين: الأول أن يسمح ابن سعود للشيخ بتقويم الناس وفق قراءته للشريعة، والثاني أن يمتنع ابن سعود عن أكل (الحرام) في حال حصوله على الغنائم بفعل الفتوحات – الدخيل ،2013ص 51-53 ومن هنا صار ابن سعود الحاكم الشرعي بالنسبة إلى المشروع الوهابي واعتبرت حروبه جهاداً وفتحاً. وتم توظيف المصطلحات الدينية مثل الشرك والردة والفساد كمصطلحات سياسية كما يرى الدخيل عني بالشرك كل من أشرك مع حكم الشريعة رأيه أو أعرافه وصار كل من يرفض حكم آل سعود والشرعة الوهابية مشركاً، ما يعني أن كل شعوب المنطقة مباح غزوها ونهبها وتطبيق قوانين الفتح عليها…. وهكذا شكلت الوهابية وسلطة الدرعية (أمة جديدة) تكفّر المنطقة.. إلخ.

وتحت عنوان (التكفير كاستراتيجية) كتب حسن الخلف (ستكون علاقة الوهابية بالكثير من الحواضر والبدو علاقة دموية حيث سعت لإخضاع وفرض الشرع على سلوكيات وحياة البدو والحضر وتحويلهم لقوة طيعة بيد ولي الأمر أي آل مقرن (المقصودآل سعود) لبناء الأمة الجديدة.. ولأخذ فكرة عن الرعب الذي نشره المشروع التوحيدي الوهابي بين الحضر أن سيطرة الوهابيين على مدينة الرياض التي ستصير عاصمتهم في القرن التالي استغرق 28 عاماً من الحرب وتخللتها 35 مواجهة عسكرية كلفت قرابة 4000 قتيل وما إن سقطت المدينة حتى فرّ كل أهلها)، ويضيف الكاتب أن سياسة التكفير ونشر الرعب وفرض الضرائب والغرامات والجزية في بعض الحالات على الناس لتأسيس كيان للملة الوهابية…توفر الغطاء الشرعي لأتباعها لضرب كل الأعراف والقوانين الأخرى. (المراجع:اقتباس).

ومع أن فكرة الجامعة الإسلامية كرابطة تجمع كل مسلمي العالم تعود بالأساس لجمال الدين الأفغاني المحسوب على تيار مؤيدي السلطان العثماني، لكن الوهابيين انتزعوا الفكرة في إطار إعادة العنصر العربي إلى قيادة مسلمي العالم، وسنرى كيف تحولت الفكرة عام 1962 إلى مؤسسة تعليمية ضخمة لنشر الفكر الوهابي تحت اسم جامعة العالم الإسلامي على يد الأمير فيصل بن سعود مؤسسها، الذي استحضر أول طاقم تعليمي لها من قيادات من الإخوان المسلمين ومنهم الحاج أمين الحسيني مفتي القدس وسعيد رمضان رئيس التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، والإخواني الفلسطيني عبدالله عزام وهو الذي اكتشف بن لادن ووجّهه إلى فكرة الجهاد، وكانا معاً في الثمانينيات من القرن الماضي ضمن جبهة المجاهدين المسلمين في أفغانستان، وكان هناك أيضاً المصري محمد قطب، شقيق سيد قطب أحد مؤسسي تنظيم الإخوان المسلمين وهو ممن وضعوا الأسس الفكرية.

حين قررت بريطانيا إشراك الجهاديين في مشروعها في المنطقة ضد حركات التحرر الوطني وما كان يطلق عليه (خطر المد الشيوعي) فقد استغلت بيئة رجعية حاضنة أصلاً للإقصاء والإرهاب عثرت فيها على ضالتها في (أحياء تجثم على أدمغتهم كالكابوس تقاليد جميع الأجيال الغابرة)- حسب تعبير كارل ماركس، إذ لم يشهد تاريخ منطقتنا سوى طفرات تنويرية علمية مادية باهتة جداً قمعت بوحشية فائقة ولم يتسنّ لها فرصة تحريك عملية تطور الوعي باتجاه تغيير نوعي في البنية الفكرية المتخلفة، وإذا كان الأمل معقوداً على رواد النهضة وورثتهم في حركات التحرر الوطني القومية والماركسية في سورية ولبنان وفلسطين ومصر والعراق لأداء مهمة هذا التغيير التاريخي فإن مهمة مواجهته المقدسة وهو في المهد والإبقاء على التخلف المتجذر وقطع الطريق على إمكانات تحديث المجتمع العربي بتقنيات السيطرة السيكولوجية والمادية كانت من ضمن المهام الموكلة إلى السفراء والقناصل والدبلوماسيين الغربيين الموجودين في منطقتنا، ولو اقتضى ذلك تلويث مظاهر العنجهية الإنجليزية بطغمة من السفاحين المؤمنين بضرورة إعادة الخلافة بالدم، فهؤلاء السلفيون الماضويون السابحون بعكس مجرى التاريخ هم أيضاً بحاجة إلى قوة تؤمن لهم الحضور في عالم زبلهم منذ قرون.

لقد أعلن مولود الوهابية الجديد (الإخوان المسلمون) صراحة عن نفسه ككيان سياسي بزعامة حسن البنا يقوم على قاعدة (إما الإسلام على ما كان عليه الرسول والخلفاء الراشدين من بعده، وإما القتل لمن يخالف ولا يعتقد هذا القول ويمارسه)، ومع أن الغدر الإنجليزي كان ماثلاً أمام أعين الجماعة وغدرها كذلك بالقدر ذاته ماثل أمام أعين الإنجليز، إلا أن ذلك لم يمنع من شراكة الإخوة الأعداء في الحلف المقدس مادام  العدو المهدد لوجود كل هؤلاء الإخوة هو الشبح الشيوعي.

 

العدد 1140 - 22/01/2025