التسويات السياسية تمليها ضرورات تاريخية!

 من يتتبع تاريخ العالم وأحداثه، فسيلحظ بسهولة أنه تاريخ مليء بالتسويات، سواء على نطاق الدول أو على نطاق الحركات السياسية المختلفة داخل كل بلد. ولقد أعطى علماء التاريخ والاجتماع تعريفاً لمفهوم التسوية ينطبق على كل الأزمان والعصور التاريخية. وينطلق هذا التعريف من تحديد مواقع القوى المتصارعة وعدم إمكانية أي طرف من أطرافها على تحديد/تحقيق انتصار حاسم. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، مقدار ما تقدمه التسوية من حل مسائل مستعصية على القوى لم تستطع حلّها بصورة جذرية. أي بصورة تخدم مصالح هذه القوة أو تلك. وباختصار.. يمكن القول إن التسوية تمليها ضرورات محددة متعلقة بتوازن القوى الداخلية أو العالمية، وعدم إمكانية إحداث تغييرات جذرية لمصلحة هذه الدولة أو تلك، أو لمصلحة هذا الفريق أو ذاك.

إذاً، التسوية هي من حيث الجوهر مواقف وسطية تحمل في طياتها جزءاً من مشروع كل طرف من أطراف الصراع. والتاريخ، كما قلنا، حافل بمثل هذه التسويات سواء التاريخ القديم أو التاريخ المعاصر، وقد يطول أمد التسويات أو يقصر. إن كل ذلك مرتبط بحدوث اختلالات في موازين القوى تتحقق من خلال التطور الموضوعي للأحداث فيؤدي بنهاية المطاف إلى انتهاء مفعول تسوية ما، إذ تنشأ ظروف جديدة تنهي العوامل التي أدت إلى القيام بها.. والتاريخ كما قلنا، مليء بتسويات دامت لفترات طويلة، فقد تعايشت القوى المتصارعة بعضها مع البعض الآخر تعايشاً طويل الأمد، وهناك تسويات لم تستمر طويلاً.

أثناء وجود الاتحاد السوفيتي، حدثت، خلال خمسين عاماً تقريباً، تسويات بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية في كثير من القضايا.. وكلنا يتذكر تسوية المسألة الكوبية والتنازلات المشتركة. ونتذكر أيضاً المفاوضات التي جرت بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة حول الحد من أسلحة الدمار الشامل والتنازلات المتبادلة.. وغيرها. ومن منا لم يقرأ عن التسوية التي أقدم عليها لينين مع ألمانيا أثناء الحرب العالمية الأولى وصلح بريست!. أو التسويات التي أقدم عليها الاتحاد السوفيتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في موضوع برلين وألمانيا، وفي مواضيع كثيرة أخرى لسنا بصدد التطرق لها جميعاً.

إذاً، مفهوم التسوية هو مفهوم أملته عوامل موضوعية مرتبطة بتوازنات القوى، ومرتبطة بالسياسة والقدرة على استخدامها بذكاء. إنه مرتبطة بفن الممكن، إن كل القوى والأحزاب السياسية الجدية تقوم بتسويات سياسية.. ومن حيث المحصلة، إن هذه التسويات المبنية على توازن القوى تخدم بصورة عامة مسيرة التطور الاجتماعي والسياسي. إن أهمية استيعاب هذه المسألة ضرورية جداً في النضال السياسي، وهي حاجة ملحّة لنا جميعاً تبرز أهميتها بصورة أوضح في التعامل مع الأزمة السياسية التي تعيشها سورية، والصراع الجاري في البلاد. إن خمس سنوات من الأزمة السورية أثبتت أن لا حلول لها إلا عبر تسوية سياسية مجتمعية.. وإن أي اتجاه متطرّف الآن يقف ضد هذه التسوية، لا يخدم عملية التطور الإيجابي في البلاد.

لا يزال واضحاً إلى الآن أن حل الأزمة السورية لا يتم عبر الاحتكام للسلاح.. الأزمة السورية هي أزمة مركبة تدخل فيها عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية، وتتشابك مع عوامل خارجية أيضاً تفعل فعلها. وإن أية قوة سياسية تستطيع تلمّس القضية المركزية التي يمكن أن توحد حولها كل أطياف الشعب السوري، والتي تؤدي إلى فتح النافذة على أفق تطور مدني مزدهر لاحق في البلاد، سيكون دورها التاريخي مسجلاً ومضيئاً.

التسوية في سورية ضرورية، لا للأطراف المتصارعة فقط، بل هي ضرورية أيضاً للشعب السوري بأسره. إنها مهمة من المهام التاريخية التي يجب السير فيها دون إبطاء، ودون تردد، لأنه تكمن فيها مصلحة الشعب السوري بكل أطيافه ومكوناته. إن التسويات هي جزء من التاريخ الإنساني تمليه ضرورات الحياة والواقع، ولا بد من السير بها. إن المواقف الحادّة تاريخياً لم تولّد سوى مواقف مقابلة حادّة، وقد كلّفت البشرية خسائر فادحة كانت بغنى عنها، فلا يوجد في التسويات إما كل شيء وإما لا شيء.

وأخيراً، وفي هذا السياق، لا مجال للعواطف والغرائز ولا للكره والبغض أو الحب. فهذه العوامل لا مكان لها في أية عملية سياسية.. والانطلاق منها في حل المسائل التي تتطلب حلولاً لن يؤدي إلا إلى نتائج عكسية تماماً، وإن الأكثر حكمة هو الذي يستطيع أن يستقرئ متطلبات المرحلة. وهناك أمثلة أخرى: مانديلا والتسوية السياسية الشهيرة مع الذين اضطهدوه واضطهدوا شعب جنوب إفريقيا على مدى أكثر من 150 عاماً. ورغم أنه كان منتصراً في هذه التسوية، إلا أن وعيه لمستقبل بلده جعله يقدم على هذه التسوية، مع العلم أنه كان هو الأقوى.

العدد 1140 - 22/01/2025