لماذا كان ماركس محقاً؟ (39)
أدّى توسّع القطاعات الفنية والإدارية إلى طمس الحدود بين الطبقة العاملة والطبقة الوسطى البرجوازية باضطراد، كما تسبّبت تقنيات المعلوماتية الحديثة باختفاء العديد من المهن التقليدية ومعاناة مناحٍ أخرى من عالم العمل: كالاستقرار الاقتصادي ومسار المهنة المضمون وتصوّر أن تكون المهنة واجباً ورسالة. وهذا ما استتبع جعل بعض مجالات العمل التي تتطلب التأهيل في متناول البروليتاريا وعودة أقسام معيّنة من الطبقة العاملة الصناعية إلى أحضان البروليتاريا.
وبهذا الخصوص يكتب جون غاري: (تُجابه الطبقة الوسطى الآن بانعدام الأمن الاقتصادي الذي لا يمكن تفاديه، وهي حالة مشابهة لتلك الحالة التي عانت منها بروليتاريا القرن التاسع عشر. تتعرض مجموعات عديدة كانت تنتمي تقليدياً إلى الطبقة الوسطى أو الشريحة الوسطى، من معلّمين وفنيين واختصاصيي علم اجتماع وصحفيين ورجال دين وإداريين، بسبب الضغط المتزايد الذي تمارسه مستويات القيادة المختلفة، للمزيد من الانزلاق نحو البروليتاريا..ولهذا السبب، وفي حال حدوث أزمة سياسية، فمن المرجَّح جداً أن يقرّروا تأييد قضايا الطبقة العاملة.
من الطبيعي أن يكون الاشتراكيون في غاية السعادة إذا ما قرر قياديّون الانضمام إلى صفوفهم أيضاً. ولن يعترض الماركسيون إطلاقاً إذا ما انضمت إليهم زرافات من القضاة والإعلاميين وكبار الضباط والموسيقيين الشعبيين. ولا شيء يتحدث ضد روبرت موردوخ أو باريس هيلتون، إذا ما أبدوا الندم الكافي على ما فعلوه واستعدوا للتوبة. كما يمكن منح كلٍّ من مارتن آميس وتوم كروز، العضوية المقيّدة والمحدّدة جداً زمنياً، علماً أنه من المرجَّح أن يتماهى أمثال هذه الشخصيات بسبب وضعهم الاجتماعي وحالتهم المالية مع النظام الحالي. وإذا حصل لأي سبب وجيه أن إسقاط النظام سيكون في مصلحة مصمّمي الأزياء، وليس سُعاة البريد، فسيركّز الماركسيون في عملهم السياسي على مصمّمي الأزياء وسيفعلون ما بوسعهم لتقليص تأثير سعاة البريد.
الوضع إذاً ليس جليّاً تماماً، كما يدّ عي بسرور منظّرو حركة (لقد مات العمال). فنحن نجد في الشرائح العليا من المجتمع ما يمكن أن نصفه بحق وحقيق الطبقة الحاكمة، حتى وإن لم يتعلّق الأمر هنا بمؤامرة من رأسماليين سيّئي المقاصد، إذ يدخل في هذه الشرائح كلٌّ من الأرستقراطيين والقضاة والمحامين المشهورين ورجال الدين وفطاحل الطب وقمة العسكر والإعلاميين والقادة السياسيين وضباط الشرطة والموظّفين الكبار وأساتذة الجامعات (بعضهم من المنشقّين السياسيين) ومالكي الأراضي ورؤساء البنوك وأخصائيي البورصة و الصناعيين ومديري الأعمال رفيعي المستوى ومديري مدارس المتفوّقين.. إلخ.. ليس كل هؤلاء بالذات رأسماليين، وإنما هم، وإن بشكل غير مباشر، عملاء رأسمال. ولا فرق عندئذ ما إذا كانوا يعيشون من مرتّب واحد من الرأسمال أو من مداخيل أخرى. فليس من الطبقة العاملة كلُّ من يقبض مرتّباً أو أجراً.
لنتذكّر بريتني سبيرز، وتشمل هذه الشريحة العليا من المجتمع الطبقة الوسطى من مديري الأعمال المتوسطين ومنهم: المعلمون والاختصاصيون الاجتماعيون والمستوى الأدنى من مديري الأعمال. يشكل الطبقة العاملة الحرفيّون والمستخدمون العاديّون، ومنهم طاقم دور العبادة والفنيون والإداريون والمستخدمون إلخ… وهم يشكلون نسبة عالية من سكان الأرض. يقدّر كريس هارمان عدد الطبقة العاملة في العالم بنحو مليارَيْ إنسان، وتصل دراسة أخرى انطلاقاً من المنطق الاقتصادي ذاته إلى عدد قريب جداً من ذلك، بينما تقدّر دراسة ثالثة العدد بنحو ثلاثة مليارات، وهذا يعني أن الطبقة العاملة كانت أقلّ نجاحاً بكثير في الاختفاء من اللورد (لوكان)(*)، لا يجوز أن ننسى عدد سكان الأحياء الفقيرة الهائل الذي يزداد بسرعة كبيرة في العالم. وإذا لم يكن هذا العدد يفوق الآن عدد سكان المدن، فسيحصل ذلك قريباً. وهؤلاء الرجال والنساء ليسوا من الطبقة العاملة بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكن لا يمكن استثناؤهم بالكامل من عملية الإنتاج في الوقت ذاته. فهم أحياناً بداخلها وأحياناً أخرى خارجها، وهم يؤدّون عادة أعمالاً رخيصة الأجر في قطاع الخدمات، دون عقود أو حقوق أو شروط عمل منظَّمة أو أية إمكانية للمساومة. ومنهم البائعون الجوّالون والنصّابون وبائعو المأكولات والمشروبات والخياطون والمومسات والعمال الأطفال القاصرون والسائقون والخدم في البيوت وأصحاب الشركات الصغيرة المستقلّون.
ولقد ميَّز ماركس بين عدة أنواع من العاطلين عن العمل. وما قاله عن العمال (الطيّارين) المؤقتين في تلك الأيام، والذين كانوا عنده جزءاً من الطبقة العاملة، يشبه إلى حدٍّ بعيد ظروف حياة سكان الأحياء الفقيرة في هذه الأيام. وهم يُستغلّون بشكل دائم، ويتعرّضون لمختلف الصعوبات الاقتصادية، وهم فوق كل ذلك المجموعة الاجتماعية الأسرع تكاثراً. وقد يكونون أحياناً فريسة سهلة بيد الحركات الدينية اليمينية، إلا أنهم أحياناً أخرى يُبدون مقاومة سياسية مدهشة. ويعمل، في هذه الأثناء، في هذا القطاع الاقتصادي غير الرسمي أكثر من نصف مجموع الشعب العامل في أمريكا اللاتينية.هؤلاء الناس يشكلون بروليتاريا غير رسمية أثبتت بقوّة قدرتها على التنظيم السياسي. ولو ثاروا يوماً ما على ظروف حياتهم وظروف عملهم التي لا تطاق، فسيهتز النظام الرأسمالي لا محالة من جذوره.
كان رأي ماركس أن تجميع الناس في المعامل هو شرط مسبق لتحرّرهم السياسي. وعندما حشدت الرأسمالية العمال في هذه الأماكن بغية الاستفادة منهم، فإنها خلقت بذلك الظروف التي مكّنت العمال من أن ينظِّموا أنفسهم سياسياً. وان لم يكن ذلك بيت قصيد أصحاب المصانع. لا تستطيع الرأسمالية العيش دون الطبقة العاملة، بينما تستطيع الطبقة العاملة أن تعيش وتتطور بشكل أفضل دون الرأسمالية. صحيح أن الناس، الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة على أطراف المدن الكبيرة في العالم، غير منظَّمين في أماكن عملهم، لكن لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن مكان العمل هو المكان الوحيد الذي يتّحد فيه المعذّبون في الأرض من أجل تحسين وضعهم. فهم يعيشون كالبروليتاريا بشكلٍ جماعي ولهم المصلحة الكبرى في قهر النظام العالمي الحالي وليس لديهم ما يخسرونه سوى الأغلال.
وهكذا نرى أن موت الطبقة العاملة أمر مبالغ فيه بشدة.. يرى بعض المراقبين أن تحوّلاً قد حصل في الأوساط الراديكالية من الانتماء للطبقة إلى الانتماء للعرق والجنس وما بعد الاستعمار. سنناقش هذا الأمر في الفصل التالي. لكن حتى ذلك الحين، علينا ألا ننسى أن أولئك الذين يعتقدون أنه من الممكن التعرّف على الطبقة من خلال لباس أصحاب المصانع وطاقيّاتهم، مخطئون، لأنهم، وهم مقتنعون تماماً بموت الطبقة والحرب الباردة (كذا)، يبحثون عوضاً عن ذلك في قضايا الثقافة والهوية والانتماء العرقي والجنس.إلا أن هذه القضايا متشابكة مع الطبقة الاجتماعية تشابكاً لا فكاك منه في الوقت الراهن، كما كانت أيام ماركس.
(*) حتى يكون القراء، الذين لا يعرفون شيئاً عن جرائم الشريحة العليا البريطانية، في الصورة: كان اللورد لوكان أرستقراطياً إنكليزياً اتُّهم بقتل خادمته، فتوارى عن الأنظار هكذا قبل عدة عقود.
تأليف: تيري إيغلتون