تساؤلات الفتى … داخل القصر الجمهوري! 2

اندفعنا نقطع الشارع نحو البوابة، جمعنا الخوف والتردد في كتلة واحدة، وكانت شخصية نذير هي الأقدر على تمثيلنا فيما لو جابهتنا مصاعب أو تساؤلات مفاجئة، ولا أخفي أننا في لحظة واحدة، كان يمكن أن نتخلى عن أحلامنا، ونعود أدراجنا إلى حارتنا دون أن ندخل القصر الجمهوري!

قطعنا الشارع بإرادة واحدة يتقدمنا نذير، وربما تكون البوابة المفتوحة للقصر هي التي كونت هذه الإرادة، ولم يمنعنا الحارسان من الدخول، وكانت هذه بادرة خير وتفاؤل.

في الطرف الأيمن من حديقة القصر الأمامية كان هناك أطفال مثلنا يتجمعون مع مجموعات متفرقة من النساء والرجال الطاعنين في السن. كانوا ينتظرون شيئاً ما سيحدث بعد قليل. ووجدنا أنفسنا بينهم ننتظر ولا نعرف معنى الانتظار، وهل سيكون فعلاً من أجل توزيع المال على الجميع؟!

تأخرت المفاجأة التي ينتظرها الجميع، وكان من الطبيعي أن يحصل انتشار نسبي بيننا، فتركتُ المكان ورحت أتجول في حديقة القصر، أحاول استراق النظر إلى المكان الذي يشتغل فيه الرئيس، فأين يجلس؟ وهل يغلق باب غرفته؟ وهل يمكن أن أذهب إلى تلك الغرفة؟ أم أنه سيخرج هو بعد قليل ويحسم الأمر؟!

بدا القصر الجمهوري في المهاجرين شبيهاً بالقصر المسحور الذي قرأنا عنه في حكايات الأطفال، فالقصر كما هو معروف، قديم، بني أيام العثمانيين للوالي حسين ناظم باشا، فإذا هو يسجل تاريخاً طويلاً من حياة سورية، يقع في مكان ساحر، يطل على دمشق وهو فيها، ويقولون إن ثمن أرض القصر الجمهوري وحدها كان بحدود خمسين ليرة ذهبية، وهو مبلغ باهظ الثمن وقتها.

لم يتخوف من في القصر من حركتي، فإذا بي أسترق النظر إلى تفاصيله وخفاياه، وخاصة أن المسافة بين تجمّعنا في الحديقة وبناء القصر لا تتجاوز العشرة أمتار، وسريعاً وجدت نفسي قرب البوابة الداخلية التي تعني أنني أصبحت على مقربة من غرفة الرئيس، وجدت بهو القصر واسعاً لكنه جميل هادئ تفوح منه رائحة خاصة لا تشبه روائح العطر التي نعرفها. وقبل أن أدخل إلى البهو انتابني شعور غريب أنني أنا الرئيس، وسألت نفسي: (لم لا أكون الرئيس؟!)

ارتفعت هامتي. ضاع الخوف من صدري في حلم اليقظة المفاجئ، ولم أعد أسترق النظر إلى الأشياء التي أراها، صرت أحدق فيها، وأرمق الموظفين الذين يمرون أمامي بثقة. وخطر لي خاطر غريب: (سيحتاج القصر إلى كثير من المازوت لأحس بالدفء!).

دبت الحركة في الداخل. ووجدت يداً تمتد إلى كتفي:

– هيه، أنت.. ابق في الحديقة بين الأطفال!

التفت إليه بغضب، فلماذا يخاطبني الرجل بهذه الطريقة، فلم يأبه لي. قال لي بإصرار:

– يا الله عمو.. روح. بدأ توزيع العيادي!

تذكرت الهدف الذي جئنا من أجله، وتذكرت الباقين الذين أتوا معي.. وسريعاً ركضت نحوهم، فوجدتهم وقد انتظموا في رتلين أمام طاولة جلس عليها اثنان يحملان جداول وحقيبة نقود، ناداني نذير:

– هيا. تعال أين اختفيت؟ حجزنا لك دوراً بيننا!

وانحشرت بينهما في أحد الرتلين أنتظر ما الذي سيحصل!

***

جرى التوزيع دون عقبات تذكر، وكان من السهل معرفة كل حصة يحصل عليها الواقفون في الرتل أمام الموظفين. فقد كان يُصرف للمرأة عشر ليرات وللرجل خمس عشرة ليرة، أما الفتيان فكان يعطى كل واحد منهم خمس ليرات سورية فقط، وكانت تسجل الأسماء ويبصم أصحابها أو يوقعون بجوارها!

مضت ربع ساعة دون أن يحل دور نذير الذي كان يسبقني في الرتل، وكان يمكن أن نحصل على حصة كل فرد منا خلال دقائق لولا ما حصل خلالها، فقد ظهر الرئيس من بوابة القصر الداخلية، وضجت الحركة في المكان وحوله، وتم إيقاف التوزيع، ووقف الموظفان احتراماً له فإذا به يتجه نحونا، ليرقب عن كثب عملية التوزيع التي تتم!

كان أبيض الوجه، مُوَرّد الوجنتين، حليق الشاربين، يرتدي طقماً أسود وربطة عنق سوداء رسمت عليها ورود صغيرة، سرّح شعره إلى الخلف مما جعل نظراته أكثر جدية.. تحدث الرئيس إلى الموظفين بهدوء وسرعة أحياناً، وتحدث مع بعض المواطنين وسأل عن حالهم. واقترب مني فظننت أنه سيدعوني إلى مكتبه، فهيأت نفسي لأجوبة أرد فيها على أسئلته.

لم يسألني، ولكنه أطال التحديق بي، وكأنه يعرفني، أربكني تحديقه بي. تذكرت الخواطر التي انتابتني قبل قليل وأنا أسترق النظر إلى بهو القصر وغرفه، فلماذا لا أصبح رئيساً مثله، نعم يمكن أن أصبح أنا رئيساً، فهل أحس بأفكاري؟

سمعت صوته الذي قاطع أفكاري. قال الرئيس:

– يمكن زيادة المكافأة حسب حاجة المواطن. لا تبخلوا على الناس!

وعاد عبر الحديقة إلى داخل القصر.

استأنف الموظفان صرف (العيدية) للواقفين، وشعر الجميع أن الحصص زادت، وسريعاً حل دور نذير، أي أن دوري سيأتي بعده مباشرة، وانتابتني مشاعر لم أكن حسبتها من قبل: (أنا لن آخذ شيئاً مما يوزعونه علينا!). ورأيت نذيراً يقبض عشر ليرات ويمضي، وسمعت صوت الموظف:

– هيا يا ابني.. ما اسمك!؟

عدت من شرودي. كان نذير ينظر إلي، وكان أحمد خلفي، ومن خلف أحمد جاء صوت يُلح:

– هيا اقبض وخلّصنا!

ابتسمت، ووجدت نفسي أنسحب من الدور، دون أن أقبض شيئاً، وكان الموظفان ينظران إليّ بدهشة، فيما كان أحمد ينتظر وفي عينيه سؤال: لماذا لا تريد أن تأخذ العيدية التي جئنا من أجلها؟!

 

 

 

 

العدد 1136 - 18/12/2024