في العام القادم
كم له من أمنيات قادمة، ولعلها تلك الأمنيات التي يحتجزها الوقت الأخير ليلونها الناس كلٍ حسب شغفه الخاص وأحلامه الممكنة بالتدرج من التفاصيل الصغيرة، إلى التفاصيل الكبيرة.
وعلى مسافة قد تبدو محسوبة يقف العام الجديد منتظراً، هو أيضاً أن يأتي لابساً قميص الأماني التي حاكتها الهموم والمكابدات لبشر متعبين وطاعنين بالانتظار، حتى يكاد الانتظار يُفضي لانتظار آخر، لا أحد يعرف أين يرمي مرساته، بل أين يذهب ذلك الرمح وإلى أين سيصل حينما تتوتر القوس عشية الأعياد وانتظار ما سيأتي على أجنحة الرغبات ذاتها.
عبوراً إلى أزمنة الحروب ونتائجها، فالأرواح المتعبة أصبحت مراياها منهكة حدَّ التشظي، لكن الحكايات الجديدة تظل مرسومة على مقاس البشر، هي وحدها من تأخذهم إليها، وإلى عتبات نهاراتهم الجديدة ليروها كشمس من نافذة ضيقة، أو اللحن المختلف لسيمفونية الوجود، لطالما هجسوا بالانتظار كتعويذة يرتقون بها ذلك الثوب الذي لن نجد به مكاناً إلا ورتقوه، إذ لا يمكن استبداله فهو باهظ الثمن وأكلافه جد مرتفعة، وأسماؤه مهما تعددت يظل اسمها الخفي: الأمل.
حينما لا يعثر الصغار على شموع الميلاد، يلبسون قلوبهم ليضيئوا بقية نهاراتهم، وعندما يعجز الدواء عن أن يكون بلسماً لآلام خفية، يبحث المتعبون عن كلمة، ظلّ كلمة أو ما يشبههما تماماً، لعل في ذلك عزاء ما يواسي أزمنة لا أزمنة لها، وأوقاتاً متثاقلة تجيء، فيما يهرش العام الجديد رأسه باحثاً عن غير حلم يسكّن به آلام النهارات الموجوعة، والمساءات الهاربة إلى كهف أحلامها.
كيف تؤوب هي الأخرى أليست لها أحلامها الخاصة، يتساءل متسول ظريف ينام آخر الليل حين عثوره على ما يحمي جسده الغض من برد طارئ، لعله وجد في الشارع وفي زاوية منسية منه، ما يشبه بيته الصغير، لكنه بلا نوافذ أو جدران، فقط يواسي ليلته ببقايا أحاديث العابرين، وبقايا نظراتهم المشبعة بترف الفضول وبالأسئلة المكتومة: أليس له أهل؟ وكيف يعيل ذاته هذا الصغير المسكين!!
في أزمنة الحروب لن تعثر على البيت مجاناً، سوف تخترعه من الهواء وتنزع من الغيم جدرانه، وثمة من يقول لك هو هشّ بما يكفي لكي تُقيم به فراشة عابرة، لكن كائنات من لحم ودم ستكون فيه محض صورة، الفرق، إنها ليست صورة على الجدار، إنها صورة طليقة يربت الهواء عليها وتُعيد رسمها آلاف العيون.
حسناً، وجد الطفل مغارته لكن أمه، ولها كل الأسماء، مازالت تبحث عنه علها تعثر على شبيهه إن لم تعثر حقاً عليه، ليكون ابنها في الزمان القادم، هو محض أمنية للعام الباحث عن بنيه، الذين وزعتهم أصابع القدر في أصقاع الأرض، باحثين عن ملجأ أو أوطان أُخرى، لكن وطنهم المسكونين به لا يرحل.
هل حقاً ستقرع بابنا أيها العام الجديد وبكم من الأثواب ستأتي لعلنا نخشى عليك البرد، وأنت تأتي ربما في عتمة طارئة لتُنير ضحكتك أرجاءها؟ وهل ستقدر على تلبية كل ما نحتاج، فقط أن تأتي مبرّأً من آثام الغياب، ومن ضراوة أيام لم نعد نمتلك القدرة على أن نُحصيها، هو ما يمكن لنا أن نعدّه في استقبالك، قالوا لعلك ستأتي متجهم الوجه صامتاً، وقال آخرون: ستأتي خفيفاً كعادتك ماشياً على رؤوس أصابعك، كي لا تُزعج من فقدناهم طيلة العام الذي سبقك، وفي الحالات كلها، نجزم أنك ستأتي إلينا وسنصغي إليك في حكاياتك الجديدة، ولعلها القديمة لكنها ستتغير حينما يكون سكّر الوقت أكثر قليلاً، لنُغير عادات التذوق فقد فاض الملح بالدم، وتوارت ضحكات النهار، وستجيء حتماً مكتفين بك، لكنك ستُعلن أن حكايتنا لن تنتهي.