مهنة كل العصور

 يقال إن مهنة التسول هي إحدى أقدم المهن التي مارسها الإنسان منذ فجر التاريخ، ربما كان هذا القول ينطوي على شيء من المبالغة إلا أنه لا يعدم بعض المنطق بالنظر إلى ميل الإنسان الفطري إلى الكسل والتواكل، وإن كان من المؤكد أن مهنة التسول ليست بأقدم المهن على الإطلاق باعتبار أن التسول هو حالة طفيلية تستمد وجودها من حالة منتجة لا بدّ سابقة لها، هذه الاستمرارية التي حظيت بها هذه المهنة دون كثير من المهن التي تجاوزها الزمن مستمدة من ميزة هامة تمتاز بها، وهي قدرتها اللافتة على التطور والتكيف عبر العصور مطمئنة دوماً إلى رأس مال مضمون ورصيد لا ينضب من مشاعر الشفقة والرحمة والعطف المغروسة في قلوب بني البشر.

هذه القابلية للتكيف استلزمت من ممتهني هذه المهنة العمل على تطوير أساليبهم باستمرار بما يتوافق وتطور أنماط الحياة في المجتمعات الإنسانية أثبت ويواكب ما يطرأ على أشكال النشاط البشري من تبدلات، وقد هؤلاء على الدوام جدارة لا تضاهى في الابتكار والإبداع لما لا يخطر على البال من وسائل وأساليب أكثر رقياً وأسرع نفاذاً إلى قلوب (أهل الخير) وجيوبهم عبر توسيع نطاق المشاعر الإنسانية المستهدفة لتشمل مشاعر أخرى غير مشاعر الشفقة التقليدية ومشتقاتها، فانتقلوا لاستغلال مشاعر الخجل والحياء والإحراج وغيرها بأساليب أشبه بالابتزاز منها بالتسول.

اليوم.. تعجّ شوارعنا بما لا يعد ولا يحصى من أمثلة عن تلك الأساليب على اختلافها، منها على سبيل المثال لا الحصر ذاك الأسلوب الذي شاع مؤخراً والذي يصح أن نسميه أسلوب (ارحموا عزيز قوم ذلّ)، ممتهن هذا الأسلوب هو غالباً شخص لا تبدو عليه سيماء المتسولين.. هندامه نظيف لائق وربما أنيق أحياناً، يتقدم من (فريسته) التي يختارها بعناية فائقة بكل أدب وحياء، هامساً بأسلوب يشي بالوقار والاتزان طالباً مبلغاً من المال – يحدده استناداً إلى تقديره لإمكانات الفريسة – مع عرض مختصر محبوك بعناية لمصيبة ما قد ألمّت به أودت به من العلياء إلى الحضيض.

ثمة أسلوب آخر يعتمد المبدأ ذاته والأدوات ذاتها تقريباً من هندام ولباقة مع اختلاف بسيط يتمثل بقيام(العزيز) صاحب هذا الأسلوب بتوجيه خطابه لعموم جمهور المارة بعبارات مقتضبة بعنوان عام دون الخوض في التفاصيل مع لحظ تفصيل صغير ولكنه بالغ الأهمية والإيحاء يتمثل بالإمساك بورقة الأدنى المقبول نقدية من فئة متوسطة كإشارة إلى الحد للمساعدة أو بتعبير أدق(التسعيرة).

ومن أساليب التسول العصرية أيضاً أسلوب استجداء ثمن الدواء، و(عدّة) هذا الأسلوب بسيطة تقتصر على بعض علب الدواء الفارغة مع حفظ بعض الأدعية الخاصة بدفع الأمراض والعلل عن أهل الخير وأحبتهم.

ولعل أكثر تلك الأساليب طرافة واستفزازاً في آن هو أسلوب (التسول برخصة) وهذه الرخصة غالباً ما تكون عبارة عن وثيقة مهترئة ممهورة بخاتم باهت غامض تتضمن شرحاً وافياً مثيراً للأشجان عن سوء وضع حاملها وجدارته بالشفقة والإحسان.

أما أكثرها ثورية وحداثة وانسجاماً مع (روح العصر) فهو أسلوب التسول الإلكتروني الذي بدأ يغزو مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، والذي يبشّر بفتح آفاق كبرى في عالم التسول والمتسولين.

وغيرها الكثير مما يصعب حصره من أساليب لا تنفك تتفتق عنها أذهان أرباب هذه الحرفة العريقة.

اللافت للانتباه أنه مع كل ما طرأ من تطور على فنون هذه المهنة وأساليبها – وربما لأننا قوم مغرمون بالتراث والفلكلور – فقد حافظت الطريقة التقليدية للتسول على مكانتها الخاصة في شوارعنا، وأقول (الطريقة) من باب الأمانة لمنهجية التصنيف باعتبار أن هذه الطريقة بحد ذاتها تشتمل على أساليب عدة، منها مثلا  ما يعتمد على مجرد ارتداء الثياب الرثة واستجداء المارة بعبارات تقليدية من قبيل (من مال الله يا محسنين – حسنة لوجه الله) مردفة ببعض الأدعية بالتوفيق والعافية لفاعلي الخير، ومنها أيضاً أسلوب استعراض الأطفال العراة الحفاة الجياع، أما أوثقها صلة بالتراث فهو أسلوب عرض العاهات الدائمة.

لعل هناك من ينظر إلى هذه المهنة المنبوذة من منظور آخر- أسوة بنظرتهم إلى مهنة منبوذة أخرى وجدت من يصنفها على أنها أقدم المهن – فيرى فيها ضرورة اجتماعية استدعتها أسباب موضوعية مرتبطة بشعور أفراد المجتمع بالحاجة إلى التكفير عن خطاياهم كتجسيد متجدد لفكرة (آكل الخطايا) التي شاعت في العديد من ثقافات الحضارات القديمة.

وبما أننا نعيش عصر المؤسسات والعمل المؤسساتي، ولأنها المهنة الأكثر قابلية للتطور والتكيف، فمن يدري.. لعلنا نشهد ذات يوم مولد مؤسسة ما (جمعية أو نقابة أو ربما اتحاد) تعنى بتنظيم شؤون هذه المهنة وصون حقوق أبنائها و(مكتسباتهم).. و(ما حدا أحسن من حدا)!

العدد 1140 - 22/01/2025