الاغتراب

 عندما هبت العاصفة ابتدأت مثل سيارة تعمل روداجاً، كان أحمد في مقتبل العمر تواقاً لأن يكون في الحياة فسحة للتعبير عن طموح وحياة أجمل، وجد نفسه مع جمع من الأقران تدغدغ مشاعرهم كلمات عن الحرية والعدالة والعيش الكريم، غمرته الفرحة كمن وجد ضالته، وبدأت الأحلام تنسج بالخيال لكن العاصفة زادت من شدة دورانها فاقتلعت أشياء كثيرة من الجذور، وتجمع في الساحات ما هب ودب من الغث والثمين.

اختلطت الأشياء وطغى على السطح كل غثٍ بجاذبيةٍ تزيغ الأبصار، من شدة فرح أحمد لم يدرك التبدلات التي أحدثتها العاصفة العاتية أو أنه لا يريد أن يعرف كي يبقى لصيقاً بأحلامه، أزيز الرصاص وأصوات المفخخات من السيارات أزاحت زقزقة العصافير وضجيج حركة المارة.

مرت الأيام والشهور والسنون ومازال أحمد يجتر أحلامه رغم وجود جحافل المسلحين بذقونهم المكتملة النمو وراياتهم السوداء التي تهدد باغتيال الحياة، جموعٌ كثيرة فرّت من الموت ولاح في الأفق وهمٌ ليس ببعيد بأن الخلاص هو الانتقال إلى عواصم أوربا المتلألئة الأنوار على قوارب الموت المطاطية، اندفع أحمد باتجاه الرحلة السعيدة دون أن يملك شيئاً من نفقات المسير فاتكأ على عاطفة الأبوة التي ابتاعت كل ما تملك تغطية لنفقات مسيرة باتجاه عواصم أوربا التي يفاضل بينها.

ركب قارب الموت وامتحنته المخاطر واجتاز طرق الغابة وهو يتلمس نقوده مخافة أن تنفد قبل الوصول إلى نقطة النهاية، تسلل إلى أحمد الشوق والحنين للأهل والوطن لكنه سرعان ما كان يطرد ذاك الشعور من ساحة فكره كي لا يأخذ منه مأخذاً صور الشباب المتنكبة سلاحها دفاعاً عن الوطن، وجموع الناس التي تمارس أعمالها لاستمرار الحياة التي كلما أطلت برأسها يسارع أحمد لملاحقتها كي لا تصل إلى معها محكمة الضمير، استقر أحمد وكأنه على متن نجمٍ بعيد تفصله السنين الضوئية عن الأهل والوطن، أدرك أحمد الكذبة الكبرى عن السعادة التي وعد نفسه بها، التي إن وجدت يكون الشوق والحنين قد احتل المكان قبلها، أحمد الذي ركب الموت وسار في الغابة يعيش حالة انعدام الوزن والاغتراب، إنه يتمنى حدوث عاصفة متعادلة الشدة متعاكسة الاتجاه كي تضعه في المكان اللائق به على أرض الوطن، إذ لا سبيل للعودة غير ذلك، مازال أحمد يخاف محكمة الضمير التي تتقن كل الشرائع والقوانين ويبعد نفسه عن قوسها، ولا يريد أن يعرف ما ارتكب بحق نفسه وأهله والوطن، لأن محكمة الضمير له بالمرصاد، هكذا تمر الأيام والليالي على أحمد بانتظار شعاع نورٍ يلوح في الأفق.

العدد 1140 - 22/01/2025