سمير والحلم القديم
(ما زلت أعد الأيام التي أمضيتها هنا.. تاريخي لم يبدأ اليوم، وجروحي لم تبدأ مع الإصابات، تاريخي بدأ منذ أخبرني أبي أن الإسرائيليين احتلوا فلسطين وطردوا شعبها. كنت في العاشرة من عمري، معه في السيارة ببيروت، مررنا بجانب مخيم صبرا، صدمتني البيوت التنك هناك، سألته عنها وعمّن يسكن فيها، قال إنهم الفلسطينيون الذين شرّدتهم إسرائيل، مذّاك صرت مثل طفل ولد بلا أسرة ولا عائلة، وأنا لم أصدق أن المدارس أقفلت أبوابها بسبب الحرب حتى أسرعت إلى حمل السلاح، كنت مستعجلاً لأغدو فدائياً لا جندياً في أي جيش عربي، هجرت الكتب والدفاتر التي كنت أرسم عليها خريطة فلسطين وعلمها وتحتهما اسم الشهيد سمير القنطار، خطّي كان جميلاً، وأنمقه أكثر حين أخط تلك العبارة الساحرة).
هذا مقطع مؤثر أحببت أن أقتبسه من كتاب (قصتي) لسمير القنطار، الذي صدر عام ،2011 وفيه يحكي سيرته منذ لحظة تسلّله من لبنان إلى فلسطين لينفذ عمليته الفدائية هناك، حين كان في السابعة عشرة من عمره، وحتى لحظة إطلاق سراحه عام ،2008 وقد تذكرت هذه الكلمات فور سماعي خبر استشهاده قبل أسبوع من الآن، وقلت لنفسي: (لقد حقق سمير أخيراً حلم طفولته…) وهو حلم بدا مصراً على تحقيقه حتى بعد إطلاق سراحه من المعتقل الذي أمضى فيه ثلاثين سنة، بل منذ اللحظة التي خرج فيها من هناك مصرّاً على ملاقاة مستقبله بالبدلة العسكرية، وإلى حين انخراطه في جبهة الجولان إثر الحرب الكونية على سورية، ما دعا وقتها بنيامين نتنياهو وقتئذ إلى القول إن المشاكل في الجولان يقف وراءها سمير القنطار، ووقتئذٍ كتبنا مستبشرين عن عودته إلى ساحة النضال حاملاً براءة الأحرار في عينيه، البراءة التي تجبرنا على الاعتراف بقوة الروح التي يملكها، والتي بها استطاع اجتياز سنوات التعذيب دون أن تغير في مبادئه وعزيمته، فمن يصدق أن إنساناً أمضى أكثر عمره في السجن، يستطيع فور معانقته لشمس الحرية واستنشاق عبيرها أن يفكر بالعودة إلى البداية من جديد، مثبتاً أن ما أفنى شبابه من أجله ما كان ناتجاً عن فورة حماس مؤقت ، كما يحلو للبعض تصوير اندفاعه، ليبرروا لأنفسهم التقاعس والانهزامية!
من يقرأ كتاب القنطار سيعثر على قصة إنسانية نادرة، فذاك الإنسان الذي حكم عليه بالسجن مدة خمسمئة واثنين وأربعين عاماً، استطاع حتى داخل السجن أن يستمر بالنضال مدافعاً عن حقوق المعتقلين بكل الوسائل منتقلاً من تمرّد إلى إضراب إلى نقاشات مذهلة مع جلاديه. حتى شعرت وأنا أقرؤه بأنه أمضى الجزء الأكبر من حياته مثل (مانديلا)، وكان مصمّماً على إمضاء ما تبقى منه مثل (غيفارا). في الأيام التي أعقبت استشهاده، لاحظت أثناء سماعي حديث الناس العاديين عنه أن العديد منهم كان يجهل جنسيته، واحد يقول إنه فلسطيني، بينما يصر الآخر أنه لبناني، فسمير الذي ولد في لبنان، وذهب ليطلب الشهادة في فلسطين، ثم خرج من الأسر، وكانت أول كلمة له أمام مستقبليه (صدقوني لم أعُد إلى هنا إلا لأعود إلى فلسطين. عدت لأعود…) ما لبث أن نال الشهادة على أرضنا، لذا يحق لنا الآن أن نقول إنه كان سورياً… فهنيئاً للشهيد تحقيق حلمه، وهنيئاً لنا أن أضحى ترابنا أفقاً لأحلام الثائرين الشرفاء!