اتفاقية سايكس بيكو تعود إلى التداول

مضى على اتفاقية سايكس بيكو التي أبرمت عام 1916 ثمانية وتسعون عاماً، ولم ينسها المثقفون في بلاد الشام لأنها كانت أحد العوامل البارزة في تكوين فصول تاريخنا الحديث، بحيث يُنسب إليها السبب في تجزئة الوطن العربي. كما يكثر الحديث عنها في المقالات المنشورة في الصحف التي تتعرض لأحداث الأزمة السورية. ويسعى الآن ورثة الدول التي صاغت الاتفاقية وعملت على تنفيذها، إلى إحيائها بكل جهد وإصرار. ويُتهمون من قبل المعلقين والمحللين السياسيين المحليين أنهم يعملون على تكريسها وتجزئة المجزأ وتفتيت المفتت.

هذه الجهات تعمل لصالحها، فهل يعمل العرب لصالحهم؟!

لم يعرف الوطن العربي عبر تاريخه الطويل وحدة سياسية، إذ نشأت الحضارات القديمة في الوطن العربي على أكتاف المدن ذات الشخصية الذاتية والمحصنة للدفاع عن وجودها. ثم دعت الحاجة الاقتصادية إلى التعاون بين المدن فنشأت المناطق الثقافية في العراق وبلاد الشام، مثل ثقافة حَلَف والعُبيد وأوروك، وعمادها التقدم والابتكار في الحرف اليدوية. إلا أننا، من خلال فنون هذه المدن وتصوير العراك بين الناس، ندرك أن النفسية البشرية لمؤسسي ثقافاتنا كانت لا تخلو من الغيرة والحسد والتنافس التي أدت إلى الخصام والعراك، الذي تطور في عهد ممالك المدن (2950-2352ق.م). إلى نشوب معارك بين ممالك المدن على المياه، كما حدث بين مدينتي لجش وأوما، وقام المنتصر ملك لجش بتخليد انتصاره في لوحة تظهر وحشية الانتصار وإذلال الأعداء.

استمر التطور في جميع مناحي الحياة الاقتصادية: الحرف اليدوية والزراعة والتنظيم والإدارة والقوانين والحقوق والتجارة المحلية والإقليمية. فرأى الأكّديون الذين كانوا في مدينة كيش وسط العراق، واستلموا الحكم بقيادة شيخهم شروكين (عام 2352 ق.م). أن بلاد النهرين والجزيرة بحاجة إلى إدارة موحدة لاستمرار التقدم وتنظيم العلاقات التجارية في المشرق. فأقاموا مملكتهم بالعنف والقوة ولم يفلحوا في المحافظة عليها أمام الأخطار الخارجية والداخلية، فسقطت وعادت بلاد النهرين والشام إلى التشرذم وإحياء ممالك العشائر القبلية عند نهاية الألف الثالث ق.م.، وأهمها مملكة أور في جنوبي العراق، وبابل في الوسط، وماري على الفرات، وناجارا (تل براك) بالجزيرة، وتوتول عند مصب نهر البليخ بالفرات، وكركميش (جرابلس) على الفرات، ويمحاض في حلب وأجاريت على الساحل، وقطنة في الوسط، وحاصور في سهل الحولة، ومجدو في فلسطين.

وحتى بعد أن آلت السلطة إلى العموريين والكنعانيين في هذه الممالك خلال النصف الأول من الألف الثاني ق.م. لم تتّحد، بل قامت أحلاف أو نشبت حروب ثنائية بينها وضمت مملكة آشور الأولى مملكة ماري إليها، ثم قام حمورابي بضم المملكتين الآشورية والمارية إلى مملكة بابل. ليس هذا وحسب بل تمكنت القبائل الحورية من تأسيس مملكة ميتانية في مدينة نوزي جوار كركوك في قلب المملكة الآشورية عند منتصف الألف الثاني ق.م. وتجرأ الملك الحثي مورشيلي عام 1600 ق.م تقريباً على مهاجمة بابل مخترقاً ممالك بلاد الشام من الأناضول عبر حوض الفرات إلى بابل دون أن يذكر مقاومة له. فاحتل بابل ودمرها وعاد بالغنائم إلى الأناضول. ليست لدينا معلومات عن ردة فعل ممالك العموريين في بلاد الشام على عبور مورشيلي نحو بابل. من جهة أخرى فقد شجع غزو مورشيلي الكشيين في جبال زاغروس على الهجرة إلى بلاد بابل واحتلالها وتأسيس مملكة فيها (1594 – 1157 ق.م).

في الحقيقة إن مصر وبلاد الشام والعراق قد شهدت قبيل منتصف الألف الثاني ق.م.، أحداثاً كثيرة، فقد طُرد الملوك الأجانب أو ملوك الرعاة من مصر وتأسست السلالة الثامنة عشر (1552-1364ق.م). التي غيرت سياسة مصر وطاردت الغرباء في بلاد الشام، وأدرك ملوكها الأخطار الآسيوية على بلادهم، فتصدى تحوتمس الثالث للميتانيين وغزاهم في حلب وردّهم إلى ما وراء الفرات شرقاً. وعرفت بلاد الشام والعراق أيضاً ممالك الكيشيين والآشوريين والميتانيين والممالك الآمورية، مثل موكيش وأجاريت ونوخشي وقادش وآمورو وأوفة ومجدو… إلخ وكلها تتنافس وتتخاصم والحثيون ينظرون إليهم من الأناضول ويطمعون بهم.

وفي هذا الجو قاد أمنوفس الثالث أخناتون (1402-1364ق.م) سياسة سلمية في المشرق نبذت العنف والقوة، وفضلت التخاطب بالمراسلات بين الممالك لحل الخلافات. غير أن الأحوال تتغير، فأحيا الآشوريون مملكتهم وزالت المملكة الميتانية وحصل الصدام بين مصر وحثّي واقتسمت المملكتان النفوذ في بلاد الشام. ولأول مرة يهاجم الغرب عن طريق  شعوب البحر بلاد الشام، فأسقطوا المملكة الحثية وممالك الساحل الشامي، وأقاموا ممالكهم الصغيرة في فلسطين.

والواقع أن البدو كانوا على الدوام ينظرون إلى السهول الخصبة في بلاد العراق والشام نظرة طمع، فتوغلت القبائل الآرامية في النصف الثاني من الألف الثاني ق.م. في جناحي الهلال الخصيب، وأسسوا ممالك عشائرية قبلية في العراق قضى عليها الآشوريون بسرعة وضموها إلى مملكتهم الجديدة في الجزيرة، بينما أقام الآراميون ممالكهم: بيت بحياني في حوض الخابور، وبيت عديني في حوض الفرات الأوسط، وبيت آجوشي في حلب، ويأدُي / شمأل في حوض النهر الأسود، ومملكة حماة ومملكة دمشق.

لم يرق هذا الأمر لآشور فأخضعت ممالك بلاد الشام خلال القرن التاسع والثامن ق.م. لسلطانها، وأصبحت بلاد الشام والعراق تحت الإدارة الآشورية بالعنف والقوة ومدت نفوذها إلى مصر خلال القرن السابع ق.م. وهددت كذلك بلاد اليونان التي جاءتها المنافسة من المراكز التجارية الفينيقية في البحر المتوسط ومن قرطاجة في شمال إفريقية التي أضحت مركز مملكة هددت إيطاليا واليونان، ودخلت في حرب مع روما وذلك رداً على غزو شعوب البحر لبلاد الشام عند نهاية الألف الثاني ق.م.

تحالفت مملكة كلدو في بابل مع الإخيمينيين في عيلام وأسقطوا آشور عام 629 ق.م. واقتسم الفريقان أملاك آشور. ما لبث الميديون ورثة الإخيمنيين أن احتلوا بابل عام 539 وسيطروا على المشرق، واحتكوا مع اليونان في سواحل آسيا الصغرى، وأخيراً حصل الصدام بينهم، واحتل الاسكندر المشرق الذي دخل في الثقافة اليونانية إبان عهد السلوقيين والبطالمة. ونضع هذا العمل الإسكندري في خانة ردة الفعل على العنف المشرقي وسيطرة الفينيقيين على تجارة المتوسط وإدارته. ونستطيع القول إن الصراع مع أوربا قد اتسع واتخذ شكلاً جديداً ظهر في هجرة اليونانيين للبلاد ثم احتلال الرومان لها، ودخولها تحت سلطة الفرس والرومان. تعرّف العرب عن كثب على الثقافة الرومانية، وخاصة بعد أن أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، فاستقلوا بروحانيتهم بعد ظهور الإسلام وعبّروا عنها بالفتح العربي الإسلامي الذي شمل غرب آسيا وشمال إفريقية في العهد الأموي ثم العباسي، وقد استوعبت الدولتان شعوباً متعددة ومختلفة وذات ثقافات متنوعة أثرت في نظرتهم إلى الحكم وأحقيتهم فيه.

وفي الحقبة من 946-1639 استقلت في العالم العربي عشائر: بنو حمدان والبويهيون والطولونيون والإخشديون والأغالبة والفاطميون، وجرى كل ذلك بعد ازدهار الثقافة العربية في عهد المأمون الذي يعتبر العصر الذهبي للثقافة العربية التي بنت أفكارها على الحرية والتسامح والاعتراف بالرأي الآخر ونبذ العصبية، واللقاء مع أفكار الثقافات الأخرى (سيريانية، يونانية، هندية).

سعى الأتابكة انطلاقاً من الموصل إلى توحيد بلاد الشام ومصر، فظهر الأيوبيون وأعقبهم المماليك ثم بنو عثمان الذين أقاموا دولتهم بالعنف والقوة كالممالك التي سبقتهم ومدوا نفوذهم إلى النمسا. ولكن سرعان ما دب المرض في جسم السلطنة لأن غذاءها كان يعتمد على العصبية والجهل والتخلف، فنشأ مشروع عربي يعيد إلى العرب مجدهم الثقافي التليد وتأثر بالأفكار الأوربية واصطدم بالثقافة الدينية المحلية، فجاءت الحرب العالمية الأولى التي أقحمت السلطنة العثمانية نفسها فيها وهُزمت، وانحاز العرب في بلاد الحجاز والشام والعراق إلى الغرب الذي غدر بهم وأبرم اتفاقية سايكس بيكو التي يقال إنها جزأت الوطن العربي. وفي رأيي أنها ثبتت ما كان موجوداً وما كان دائماً في الماضي إبان العصور التاريخية السابقة.

ولو أن العرب حرصوا على تعاونهم وتعاضدهم بعد الاستقلال لكانوا غيروا الواقع الذي أوجدته الاتفاقية جذرياً وبأي شكل ملائم. كما فعل الطليان عند تحقيق وحدتهم، وكما فعل الألمان قبل سنوات عندما أعادوا وحدتهم بثقة واطمئنان غير آبهين بالمصاعب.

ولعلنا نتعظ من التاريخ في العالم كله وندرس بعناية ما حققه الآخرون وما عجزنا عن تحقيقه لأسباب كثيرة ونسعى نحو هدف الاتحاد وننبذ العنف والقوة في تعاملنا مع بعضنا، ونسير على هدي المثل الذي نردده: (قال له: رحم الله والدك، كان يجبّر المكسورة). فأجابه: (رحم الله الوالد، فقد كان يجبّرها قبل أن تُكسر!!).

العدد 1140 - 22/01/2025