فيلسوف المعرة في مرآة الفنان فتحي محمد
بعد ألف عام من مولده نظر النحات الحلبي فتحي محمد في سيرة فيلسوف المعرة وتأملها جيداً كي يصنع تمثالاً نصفياً يجسد فيه عبقرية هذا الفيلسوف. أعتمد النحات الخيال في تشكيل صورة وافية عن السمات الخَلقية لرهين المحبسين. ولا بد أنه قرأ ما كتبه طه حسين في سفره العظيم (تجديد ذكرى أبي العلاء):
(قفْ بنا الآن على داره بمعرة النعمان وقد انزوى فيها رجل مكفوف نحيف، في وجهه آثار الجدري، ترتسم على جبينه صور مختلفة تمثل حزنه على أمه حيناً وألمه من عشرة الناس حيناً. خذ هذا السجين بعينك وألق إليه سمعك. إنك لتراه وقد التفَّ في ثوب غليظ من القطن وجلس على فراش من الصوف، وهو يقول: مالي والناس؟ لقد بلوت أخلاقهم فلم ألق إلا شراً، واختبرت طباعهم فلم أجد إلا نكراً، فضربت بيني وبينهم الحجب).
حين وقف الفنان التشكيلي الحلبي فتحي محمد على عتبة دار فيلسوف المعرة حار في أمره، فقد كان أمام خيار صعب، فإما أن يقدمه للناس كما قرأ عنه وتخيّل صورته، أو يقدمه في صورة أقرب ما تكون إلى القيم الجمالية في فن النحت اليوناني. يقول الناقد السوري صلاح الدين محمد:
(اختار النحات السوري فتحي محمد الحل الجمالي بمعناه المباشر، حلاً يحقق له تقديم النموذج لا الصيغة التي تحقق الرضا عن أولئك الذين يملكون تصوراً مسبقاً عن صورة الفيلسوف أو الحكيم. ومع أن فيلسوف المعرة لم يكن وسيماً على أية حال، إلا أن النحات صنع صورته بمحبة عارمة: لحية كثة متماوجة، ورقبة صلبة راسخة واضحة في تفاصيلها صريحة في ثناياها، وغطاء رأس محبوك بأناقة وانتظام، وعينان مشدودتان إلى البعيد تحملان قدراً هائلاً من التأمل، وعكس ذلك من خلال تقلص الحاجبين وحفر الأخاديد على الجبين. بل إن آثار الجدري تحولت في وجه فيلسوف المعرة إلى لمسات جمالية ساحرة .إن النحات ينتقل من الشكل الذي يبدو اهليليجياً في مقطعه إلى قاعدة دائرية، وبحل معماري موفق، ودون أن تشعر بنوع من الانقطاع أو الاسترسال المفتعل. وهذا يقودنا إلى الاعتقاد أن النحات أراد أن يقدم لنا عملاً كلاسيكياً خالصاً، مدروساً بكل تفاصيله الفنية الكبيرة منها والصغيرة. من القاعدة المنقوشة بعناصر نباتية تزينية والتي تخلق نوعاً من الحركة للتمثال النصفي إلى الحركة المتولدة من التنوع في الملمس الانسيابي، والتوازن بين العناصر المسحوبة بمسطحات ملساء مبسطة إلى حدّ ما لكنها قوية التأثير).
نقرأ في الدراسات التي كُتبت عن فحتي محمد أنه انكبّ على تعلم أصول النحت، ولا سيما كيفية بناء الرؤوس البشرية، وهنا ذهب في اتجاه رأي مايكل انجلو في أن النحت غير الرسم والتصوير، بل يفوقهما أهمية من حيث أن المنحوتة تدرس من كافة أطرافها، ويجب أن يحافظ على عظمتها أينما كانت نقطة النظر إليها. ومن هنا نلاحظ أن فتحي محمد قد قدم فيلسوف المعرة في منحوتة مدروسة من كافة جوانبها. وقد ساعده في إتمام عمله وتفوقه ما حصل عليه في طفولته، حيث كانت تقوم ورشة لصنع الفخار قرب مسكنه فكان يلعب بالطين ما شاء له أن يلعب. ومن هنا أيضاً اكتسب نزعته الطبيعية التي وجهته نحو احترام شديد للواقع والسعي لتطوير فهمه لتفاصيل التشريح وادراك الدلالات التعبيرية التي تكمن في الخطوط التي تحدد الملامح، مما يشعرنا أن الفنان فتحي محمد كان في بداياته رصيناً جاداً في التعلم والبحث ميالاً إلى الهدوء والثبات، وكأن به من تلك الأيام المبكرة من مسيرته الفنية بذرة الاحتراف والتمكن في صنعته.
وهذا ما أهَّله كي يبدع تلك الخطوط الانسيابية في تمثاله النصفي لفيلسوف المعرة، وتلك من عجائب الصدف، أن تلائم تلك الخطوط أنامل طه حسين المرهفة، والتي راحت تتحسس ملامح تمثال فيلسوف المعرة، والذي نُصب في باحة مدرسة التجهيز الأولى -ثانوية المأمون اليوم- في مدينة حلب الشهباء مساء يوم الخميس 28 أيلول 1944 حيث أقيمت الحفلة الحلبية للمهرجان الألفي الذي أقامه المجمع العلمي العربي لذكرى مرور ألف سنة على مولد فيلسوف المعرة. وقد كان عميد الأدب العربي على رأس الوفد القادم من مصر المحروسة. وقد أدرك طه حسين برهافة حسه أنه أمام فنان عبقري أحسن عمله وأتقنه كل الاتقان، فدعاه للالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة، وأعطاه كتاب توصية لتسهيل مهمته هناك.