الالتباس القائم بين مفهومي السلطة والدولة!
إن الطريق لاستكمال مقومات الدولة في منطقتنا شرق الأوسطية، يجب أن يمر عبر المجتمع المدني والتطور الديمقراطي الذي يشكل القاعدة الأساسية لهذا الاستكمال، وإن غياب المجتمع المدني عن معظم بلدان المنطقة أدى بشكل عام، إلى وجود سلطات تحت اسم دول متحكمة في كل مرافق الحياة. وكل المؤسسات التي نتجت عنها، لم تكن إلا عبارة عن مؤسسات شكلية مفرغة من محتواها، وغالباً ما كانت تنتهي صلاحية هذه المؤسسات مع انتهاء صلاحية هذه السلطات.
وهنا لا بد من الإشارة إلى فكرة سادت في المنطقة لأعوام طويلة، جوهرها الخلط بين فكرة السلطة وفكرة الدولة. وهذا الخلط لم يأت من فراغ، إذ يعود السبب في ذلك إلى أن العهود السابقة التي عاشتها هذه المنطقة بدءاً من السلطة العثمانية رجوعاً إلى الوراء، لم تكن هاتان الفكرتان منفصلتين إحداهما عن الأخرى، حيث كانت تغيب أية إمكانية عن قيام مجتمع تستطيع فيه مختلف الفئات الاجتماعية أن تعبر عن نفسها بصورة حرّة. أي، إن السلطات السابقة كانت تتميّز جميعها، دون استثناء، بأنها سلطات قمعية، وأنها كلية القدرة، ولا توجد قوانين ولا أية ضوابط يمكن من خلالها أن يحاسب الحاكم.. وهو مخلّد في حكمه ولا يمكن أن يبدل.. وينتقل الحكم بصورة وراثية من الأب إلى الابن الأكبر عادة.
وكانت التغيرات، وإزاحة الحكام، تجري بالعنف والقسر، وعادة ما كانت دموية وتؤدي إلى حروب وصراع على السلطة حتى بين الأخوة. وبالتالي يمكن القول أن الدول القديمة حيث كان الاستبداد هو المسيطر، لم تكن دولاً مستكملة لمقوماتها. إن العصر البرجوازي هو الذي وضع الأسس لاستكمال مقومات الدولة، ولاستكمال مقومات الأمم، وليس ذلك مستغرباً، لأن الثورات البرجوازية كانت نتيجة التطور العلمي والثقافي الذي امتد طوال آلاف السنين، وكانت نتيجة التراكم المعرفي، وأيضاً نتيجة التراكم في مجال إنتاج الخيرات المادية، إذ اجتمعت كلها معاً لتشكل أساساً للتطور العاصف الذي جرى فيما بعد.
إذاً، إن بداية انفصال مفهومي السلطة عن الدولة، بدأ مع العصر البرجوازي الذي جلب التكنولوجيا والعلم، وفسح المجال لتطور واسع وعاصف للقوى المنتجة، ورفع التطور الحضاري الإنساني خطوة إلى الأمام بحيث أنه مهّد الطريق لاستكمال مقومات الدولة.
إن البرجوازية، وبالرغم من أنها طبقة مستغِلّة، إلا أنها كانت ملزمة بشعارات طرحتها ولم تعد ملكها، ولم يعد بالإمكان تجاهلها بصورة مباشرة، مثل الحريات السياسية وحقوق الإنسان، والديمقراطية وتداول السلطة، والانتخابات وحرية الأحزاب والصحافة، وكل هذه الأشياء تشكل أساساً للتطور المدني في أي مجتمع من المجتمعات.
المجتمع المدني إذاً، هو مجتمع الحريات، ومجتمع المؤسسات غير المرتبطة بالسلطة السياسية.. ومجتمع وحدة الأمة، وهذه الأشياء الثلاثة هي التي تشكل مقومات الدولة، وهي من حيث الجوهر لا تزول بزوال السلطة.. أي أنها ليست مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالسلطة. هي مرتبطة بالنظم التي تسيّر المجتمع. وبالتالي، إن إحدى المهام الأساسية التي ستكون مطروحة في أي بلد من بلدان شرق الأوسط، هو العمل لاستكمال مقومات الدولة، وهذا الأمر يتم عبر النضال من أجل المجتمع المدني ومن أجل الديمقراطية، ومن أجل وحدة نسيج المجتمع. أي من أجل وحدة الشعب كمكوّن تاريخي في منطقة ما. إن ربط قيام الدولة بالنضال من أجل ذلك هو ما يمكن أن يسير بهذه العملية حتى نهايتها. ودون هذا الربط، وعبر سيطرة الإلغاء ونفي الآخر لن يكون استكمال مقومات الدولة وإنما سيؤدي ذلك إلى البعثرة وإلى تأخر إنجاز هذه المهمة التاريخية التي يجب أن تكون هدف جميع من يتطلّع إلى مستقبل أفضل لشعوبنا.