«دفاتر» دوستويفسكي: لكلّ ميدالية وجه آخر
كثرٌ من القراء في جميع أنحاء العالم يعرفون روايات دوستويفسكي، من طريق القراءة المباشرة في معظم لغات الأرض، كما من طريق الاقتباسات السينمائية التي باتت لا تعد ولا تحصى… وكذلك في جميع بقاع الأرض. غير أن عدداً أقل جداً من الناس يعرف كتابات دوستويفسكي الأخرى، من رسائل ومذكرات ويوميات ونصوص متنوعة ومتفرقة، تعتبر بالنسبة إلى أهل الاختصاص، ضرورة لا مفر منها من أجل الإحاطة المتكاملة بعمل صاحب (الإخوة كارامازوف)، وبكيف كان يفكر، وكيف كان يشتغل على رواياته، وتحت أي ظروف كتب كل رواية منها.
ومن هنا، بعدما صارت روايات دوستويفسكي حاضرة في كل ذهن وفي كل بيت، كان لا بد من إعادة الاعتبار الجماعية إلى النصوص الأخرى الموازية. وفي مقدم هذه النصوص، صفحات عدة كان الكاتب يدونها لاستخدامه الشخصي، خصوصاً خلال الفترة التي تبدأ بالعام ،1872 وهي فترة السنوات العشر التي شهدت كتابته بعض أهم أعماله الأدبية. ومن هنا جمعت تلك النصوص لاحقاً ونشرت تحت عنوان (دفاتر)، جرى دائماً التوضيح في مقدمها، أنها إنما كانت فقرات اعتاد دوستويفسكي تسجيلها على أوراق متفرقة وكراسات صغيرة، ليعود إليها، فيما يكتب رواياته وغيرها من النصوص، ما يعني أن الجزء الأكبر منها إنما كُتب لدوافع شخصية من دون أن يكون هناك توقّع لنشرها ولا سيما في حياة كاتبها.
ولأن لتلك الفقرات والصفحات طابعاً خاصاً، ذلك أن الهدف منها لم يكن، على الإطلاق، أن تُنشر، تعمد الناشرون، والمترجمون أيضاً، ترجمة تلك النصوص ونشرها كما هي من دون أي تصحيحات أو إضافات، حتى ولو بدت في بعض الأحيان غير متماسكة، وفي أحيان أخرى حافلة بأخطاء إملائية… فالمهم أنها، إذ تخضع للقراءة والتمحيص، على ما هي عليه، تصبح أداة شديدة الفعالية لمعرفة المزيد عن (صنعة) دوستويفسكي الأدبية، وحتى عن آرائه الحقيقية في زمنه وأهل زمنه، آراء كان يصعب تلمّسها حقاً في ثنايا كتاباته (الرسمية).
من هنا اعتبر الاختصاصيون تلك الصفحات وسيلة لمعرفة الكاتب وحساسيته على سجيتهما، بعيداً من نباهة المفكر وبرودة أعصابه حين يكتب وهو يعرف أن ألوفاً سيقرؤونه. وهكذا، مثلاً، إذا كان دوستويفسكي قد أشاد كثيراً ودائماً بمواطنه وزميله تولستوي، في العلن… فإنه في تلك النصوص يبدو أقل عدلاً، إذ ها هو يقول إن موهبة صاحب (الحرب والسلم) شديدة التواضع. فماذا عن أعداء القيصر، ومناهضي الكنيسة الأورثوذكسية الروسية، الذين كان يخيل إلى كثر أنه هو واحد منهم؟ إنهم – في رأيه – مجموعة من الحمقى وأعداء الوطن… إنهم مجرد (ديموقراطيين كريهين) على النمط الغربي. أما فرنسا، بالنسبة إليه فليست أكثر من (أمة ميتة قالت كل ما كان لديها لتقوله وانتهى أمرها). أما الشعب الروسي، فإنه شعب أورثوذكسي، ولا يمكنه أن يكون إلا كذلك… وإذ ييمّم هذا الشعب وجهه إلى مكان مقدس… فإن هذا المكان هو بالضرورة إسطنبول (القسطنطينية) التي تخصّه، من دون غيره من الشعوب منذ أقدم الأزمان.
غير أن السياسة لم تكن الشيء الوحيد الذي يشغل بال دوستويفسكي. إذ ها هو يحدثنا في نصوص أخرى، عن حياته، وعن كتاباته، وعن الأدب الذي يقرأه في شكل عام. فيكتب مثلاً: (… عند ذلك انطلقنا أخي وأنا، نحو حياة جديدة. كنا نحلم والهين، بما لا نعرف ما هو. كنا مؤمنين بشيء ما. ولم نكن نجهل شيئاً نحن الاثنين حول ما هو مطلوب منا من جل امتحان الرياضيات، ومع هذا لم نكن نحلم إلا بالشعر والشعراء…). أو يكتب: (أخي… أنا لم أفقد شجاعتي، إن الحياة في كل مكان، في داخلنا، وليست في العالم الخارجي. فالشمس ترى دائماً. هلم بنا، وداعاً يا أخي… هل من الممكن لي ألا أمسك بالقلم بعد الآن أبداً؟… أجل، إن لم أكتب سأهلك… أفضل خمسة عشر عاماً في السجن شرط أن يكون قلمي في يدي). أو: (الحقيقة أن من الأمور الواضحة أن الاشتراكية الوليدة قد قورنت، آنذاك، حتى وعلى يد القائلين بها، مع المسيحية: لقد اعتبرت الاشتراكية، باختصار، تصحيحاً وتحسيناً للمسيحية يتلاءمان مع العصر والحضارة. كانت كل تلك الأفكار الجديدة تسحرنا آنذاك في بطرسبورغ، وكانت تبدو لنا مقدسة وأخلاقية، وإنسانية في شكل خاص، غايتها أن تصبح شريعة لكل النوع الإنساني من دون أي استثناء).
لاحقاً… إذ يزور دوستويفسكي، المناضل السياسي والناقد الأدبي بيلنسكي، الذي كان قد أبدى اعجاباً مبكراً بروايات دوستويفسكي الأولى، يكتب: (لقد خرجت من عنده وأنا في حال من النشوة. توقفت عند زاوية بيته، ونظرت إلى السماء، كان نهاراً مضيئاً. ونظرت إلى العابرين وشعرت بكليتي أن لحظة رنانة في حياتي قد عبرت منعطفاً أبدياً، وأن شيئاً جديداً كل الجدة قد بدأ لتوه، شيئاً لم يسبق لي أن رأيته حتى في أكثر أحلامي شغفاً. كنت في تلك اللحظة حالماً رهيباً).
وفي صفحات أخرى يدوّن دوستويفسكي ملخصاً لإفادته أمام لجنة التحقيق المكلفة التحقيق في قضية بتراشفسكي على النحو التالي: (يتهمونني بأني قد قرأت مقال (مراسلات بيلنسكي/ غوغول) في إحدى أمسيات بتراشفكسي. أجل لقد قرأت ذلك المقال علناً. ولكن هل في وسع ذلك الذي وشى بي أن يعرف ما هي المراسلات التي أفضلها على غيرها؟ هل في وسعه أن يتذكر ما إذا كان ثمة في أحكامي القيمية (وأنا لم أورد أي أحكام من هذا النوع) ولكن في إشاراتي وحركاتي أثناء القراءة، ما يشير حقاً إلى تفضيلي قسماً من المراسلات على قسم آخر؟ إن هناك في عالم الأدب كثراً من الناس صاروا يعرفون الكثير عن خلافي مع بيلنسكي، وانقطاعي عنه خلال العام الأخير من حياته (…). أما بتراشفسكي فإنه يؤمن بأفكار فورييه… ونظريات فورييه نظريات مسالمة. إنها أفكار تسحر الروح بأناقتها، وتخلب الفؤاد بما تحتويه من حب عامر للناس. وهو الحب الذي يحرك فورييه فيما هو منكب على صوغ نظريته، وتندهش النفس إزاء ذلك بتناسق تلك الأفكار… في منظومة فورييه الفكرية، ليس ثمة أي مكان للحقد).
وعن أدب الواقع يكتب دوستويفسكي: (إن الفكرة التي صنعتها لنفسي عن الواقع والواقعية، تختلف تماماً عن فكرة واقعيينا ونقادنا. إن مثاليتي، مثلاً، أكثر واقعية من كل ضروب الواقع التي يتحدثون عنها. يا إلهي…! أمام أي وصف ذكي لما عشناه نحن معشر الروس، خلال السنوات العشر الأخيرة من تاريخ أخلاقنا، ألن يصرخ واقعيونا بأن هذا كله من قبيل الخيال؟ ومع هذا… كل ما عشناه كان حقيقة… وكل وصف له يبدو وصفاً حقيقياً… إنها الحقيقة. والحقيقة هي الواقعية الأكثر عمقاً: أما واقعيتهم فإنها لتطفو على السطح. وأنت بواقعيتهم لن يمكنك أن تصف ولو قدراً ضئيلاً من الوقائع التي تحلّ في عالمنا حقاً. أما نحن فإننا وصلنا بمثاليتنا حتى إلى التنبؤ المسبق بما سيكون عليه الواقع بعد حين). أما عن بلزاك الذي كان أحد كتابه المفضلين، فيقول دوستويفسكي: (إن بلزاك كاتب كبير… وشخصياته هي من نتاج الذكاء الكوني… إنها ليست روح الزمن، بل روح الأزمان كلها التي هيأت مثل تلك النهاية في الروح الإنسانية، عبر نضال الشخصيات التي رسمها قلم هذا الكاتب).
إن ملاحظات من هذا النوع، ومقتطفات من رسائل ومدونات أخرى، تبدو في نهاية الأمر قادرة أكثر وأكثر على إدخالنا إلى روح فيودور دوستويفسكي (1821 – 1881).. وذهنه. وبالتالي على وضعنا في صلب عمله، والإجابة عن كثير من أسئلة يمكن للقارئ، بعد أن يتمتع ويرهف ذهنه بقراءة بعض أعمال دوستويفسكي الكبيرة مثل (الجريمة والعقاب) و(الإخوة كارامازوف) و(الأبله) و)المقامر) و(الشياطين) و(من سردابي))، يمكن له أن يطرحها على نفسه وعلى ذلك الأدب الذي كان، ويبقى، من أعظم ما أنتجه كاتب في التاريخ.
(الحياة)