أزمة الشيوعية أم أزمة الرأسمالية؟
قبل دخول الرأسمالية أزماتها الخانقة على المستوى الأممي، سيعيد الاقتصاديون والأيديولوجيون والسياسيون، حكاياتهم القديمة حول المجتمع البرجوازي بوصفه آخر محطة للتقدم البشري، فلا مجال بعد للتقدم، فالرأسمالية هي نهاية التاريخ. والحديث عن مجتمع آخر -مجتمع شيوعي- ليس سوى أوهام الأغبياء. والتاريخ قدم دلائل كثيرة عن وهمية الشيوعية، فيجب المحافظة على الرأسمالية بوصفها أكثر النظم أخلاقية في التاريخ.
أما الرأسمالية نفسها -وهي تعبير عن قوى إنتاجية عالمية متقدمة- فهي التي ستضع بين فترة وأخرى، حاجزًا أمام الإنتاج الرأسمالي- إنتاج الرأسمال. فالقوى الإنتاجية الرأسمالية، وسيلة للإسراع في تراكم الرأسمال، وإعادة إنتاجه بأسرع ما يمكن. أما العلاقات الإنتاجية التي تُنْتِج الرأسمال، ضمنها، فهي تميل دومًا إلى إغلاق أبواب الإنتاج. وعندئذ تصاحب الإنتاج توقفات مفاجئة وأزمات في سلسلة العمليات الإنتاجية. فالأزمات صفة أبدية للمجتمع الرأسمالي. وهي فترة تخاطر فيها الرأسمالية بحياة البشرية كلها.
وهكذا، فالتقدم في القوى الإنتاجية الرأسمالية ذاتها، يتنازع وطرائق الإنتاج البرجوازية، فطريقة الإنتاج وإدارتها، هي التي يجب إعادة تنظيمها لا القوى الإنتاجية المتعاظمة. فالتناقض الداخلي للإنتاج الرأسمالي يأتي من النمو غير المنظم للقوى الإنتاجية، الأمر الذي يؤدي إلى تزايد غير محدود لإنتاج الرأسمال. فالإنتاج يجعل من الرأسمال هدفًا محددًا لذاته، والقوى الإنتاجية مع العلوم الطبيعية التي هي جزء منها، تتقدم لأجلها فقط. فالتناقض إذن، يقع بين النمو الأبدي للإنتاج وغايته المحدودة، تثمير الرأسمال، أي بين العلاقات الإنتاجية البرجوازية المحدودة والمهام التاريخية للقوى الإنتاجية المتطورة التي لا تقبل ألبتة، حدود الإقطاعية أو الرأسمالية بصفتها آخر محطة للتقدم البشري.
وهكذا، فمن المزيد من تركيز الرأسمال، تواجه الرأسمالية الاختلال الاقتصادي والأزمات. ولأجل إعادة التوازن المختل، ستكون الرأسمالية مضطرة لتنويم قسم من الرأسمال، وتدمير قسم آخر منه. والمزاحمة هي التي تقرر حجم هذا التدمير وبضمنه تدمير كتلة الفائض البشري -الأيدي العاملة الفائضة. فالحل الرأسمالي إذن، هو تدمير قيمة رأس المال ما يقابل جزءًا أعظم من الرأسمال الفائض ثُم الفائض في الأيدي العاملة. فالحروب على العموم، والحربان العالميتان الأولى والثانية على الأخص، هما الأشد تعبيرًا في واقعنا عن تدمير هذا الفائض الإنتاجي والبشري. فالفائض البشري مثل الفائض الإنتاجي، يجلب أيضًا وباءً اجتماعياً للرأسمالية العالمية -البطالة بالملايين مثلاً، فتدمير هذا الفائض البشري، جزء من عملية تدمير الفوائض، ثم يعاد توازن المختل.
وهنا تبدأ الشيوعية بتوجيه انتقادها للإنتاج البرجوازي، فمن وجهة النظر المادية التاريخية، ستتراكم كل القوى الاجتماعية هنا، لتجاوز الحالة الإنتاجية التي يمكن تحويلها إلى نمط جديد للإنتاج بدل حدوث الفوائض والاضطرار إلى تدميرها. ففي كل هذه النزاعات الداخلية للإنتاج، تكون عناصر ولادة أسلوب إنتاجي جديد، كامنة في أحشاء الرأسمالية. وما هذا الأسلوبُ إن لم يكن الأسلوبَ الشيوعيَّ في الإنتاج؟
أما الرأسمالية بوصفها أكثر الطبقات رجعيةً في التاريخ في الوقت الحاضر، فستحتفظ بالأسلوب القديم في الإنتاج نفسه، مهما كلف الأمر البشرية. والدليل هو وصول ضحايا البشرية إلى أكثر من 50 مليون إنسان في مجازر الحرب الرأسمالية العالمية الثانية. فماذا نسمي ذلك؟
هل يمكن أن نسميه أزمة الرأسمالية العالمية أم لا؟ هل تواجه الرأسمالية العالمية بالفعل أزمات خانقة لا يمكن الخروج منها دون المجازفة بحياة البشرية كلها؟ وما الحل، هل هو في إعادة التوازن المختل من خلال تدمير الفوائض والتحضير لأزمة أشمل وأعم من كل ما سبقها من الأزمات في التاريخ، أم في تجاوز حدود الإنتاج الرأسمالي؟
إن الطريقة الآمنة لإنتاج منظم، بعيد كل البعد عن كل أشكال الاختلال الاقتصادي، هو إنتاج شيوعي. ومادامت الرأسمالية لا يمكنها القضاء على أزماتها الدورية، فعليها، عاجلاً أم آجلاً، إفساح المجال لأسلوب إنتاجي جديد، كوموني في العمل والتوزيع والاستهلاك.
وهكذا، فحتى إذا جرى الاتفاق بيننا وبين هؤلاء الذين يتحدثون عن الشيوعية بوصفها أحلامًا سعيدة وخيالاً رومنسياً للإنسان المظلوم، أو يتحدثون عن أزمة الشيوعية، بوصفها حركة غيرَ قادرةٍ على استعادة قواها الاجتماعية لمجابهة الرأسمالية، فلا يعني ذلك أن الرأسمالية نظام ينبغي على البشرية الاحتفاظ به بصورة أزلية. فالتطور المستمر للقوى الإنتاجية يتناقض مع بقاء الاقتصاديات المتناقضة في التاريخ. فالإنتاج الاجتماعي يجب أن يُنَظَّم بحيث يسيطر البشر على كل اختلال في التوازن الاقتصادي والأزمات. وفي التركيب الاجتماعي للنظام الرأسمالي بوصفه نظامًا تعاونيًّا في العمل، نجد تركيبًا جديدًا للنظام الاجتماعي، وهذا النظام نتاج طريقة شيوعية في الإنتاج والإدارة. فالشيوعية هي التي تجد علاقة إنتاجية جديدة تطابق القوى المتعاظمة للإنتاج. فليست الشيوعية هي التي في أزمة، بل الشيوعية هي المكلفة تاريخياً، بإيجاد مَنْفَذ لخروج البشر من الأزمات. فالمسؤول عن الأزمات ونتائجها المأسوية، ليس السماء أو الطبيعة، كما يقال، بل شكل تنظيم الاجتماعي للعلاقات الإنتاجية التي تتضمن علاقات التوزيع والاستهلاك البرجوازي. فالإنسان هو المسؤول عن هذا التنظيم. ففي القضاء على الأساس المختل للاقتصاد البرجوازي، نجد أساس تنظيم جديد للإنتاج، بعيد كل البعد عن اختلال التوازن والأزمات، وهذا التنظيم لا يمكن أن يكون سوى التنظيم الشيوعي للإنتاج.
نقلاً عن: مركز دراسات وأبحاث الماركسية واليسار