أفقدَنا كنوز سورية البشرية.. التقاعد على الستين خطأ يجب التراجع عنه!
استناداً إلى حجج واهية، جرى إقصاء عدد كبير من خيرة العاملين في الدولة والقطاع العام، بدءاً من عام 2002 لوصولهم إلى الستين من العمر. ولأول مرة في تاريخ سورية يُلغي بلاغ من رئاسة مجلس الوزراء نصاً قانونياً ورد في قانون العاملين الموحد القديم والمعدل، إذ أجاز التأمين على العامل في مؤسسة التأمينات الاجتماعية حتى الخامسة والستين من عمره (بلاغ رئيس مجلس الوزراء صدر في 9/2/2002 بالرقم 5/ب/1369/.15.إلخ).
وكان القانون قد أجاز استمرار العامل في عمله بعد الستين إذا ما حصل على موافقة المدير المختص، ثم نص التعديل على موافقة الوزير، وجاء البلاغ لينص على منع التمديد نهائياً. ولم يمدد بالفعل منذ عام 2001 حتى الآن إلا لكل طويل عمر وللقادرين على الوصول إلى رئيس مجلس الوزراء والحصول على موافقته، وهناك قلة قليلة أتيح لهم التمديد جتى الخامسة والستين، أو لستة أشهر.
ولم يعرف تاريخ سورية تمسّكاً ببلاغ لرئاسة مجلس الوزراء مثل ما نشهده من إصرار على التشبث بهذا البلاغ، ولقد قرأنا (وشايات) في الصحف اليومية ضد من جرى التمديد لهم انطلاقاً من حرص تلك الصحف – كما جاء على لسان المحرر- على تطبيق القانون.
مصالح فردية وضرر وطني!
لقد استفاد من هذا البلاغ عدد كبير ممن كان عليهم أن يمضوا عشر سنوات أو خمس عشرة سنة للوصول إلى المناصب العليا، إذ حلوا محل من جرى ترحيلهم بتهمة الستين وباتوا يتقاضون ما يُسمى بمعاش الشيخوخة.
وعلى الرغم من التوجيهات الرئاسية بإحداث مجالس استشارية والاستفادة من خبرة المتقاعدين كمستشارين، فإن القائمين على العمل في الوزارات والمؤسسات ضربوا عرض الحائط بهذه التوجيهات ومن نفذها شكلاً لم يفعّلها، فجرى في البلد مثل يقول: مستشار لا يُشير ولا يُشار!
خربطة وتخبيص
نجم عن ذلك استشراء الروح الفردية والتعنت في الإقصاء، والأداء بالأخطاء والإصرار على تجاهل وجود آلاف الخبراء المهرة في البلد من كل الاختصاصات يمكنهم أن يساهموا في تحصين الأداء ضد كثير من الأخطاء، ومع استفحال الحالة اضطرت الدولة ذاتها إلى خرق بلاغها الرهيب وسنت التشريعات التي أجازت تشغيل العاملين في سلك التعليم الجامعي إلى السبعين والقضاة والدبلوماسيين إلى الخامسة والستين، والإبقاء على نخبة من خبراء المال في المصرف المركزي بغض النظر عن أعمارهم.
وفي رأينا أن الحياة متكاملة ولا يوجد قطاع أفضل أو أهم من قطاع آخر، ولهذا نستغرب التمديد لأساتذة جامعيين في كليات الآداب، وإقصاء كبار أساتذة الرياضيات والفيزياء والكيمياء عن مدارسهم بتهمة الستين وهم من يدرسون في صفوف الشهادة الثانوية – القسم العلمي، ويصعب على المبتدئين أن يغطوا الفراغ الذي يتركه هؤلاء المتقاعدون!
وثمة على هذا الصعيد مثال أذكره باستمرار هو عن مدير مكتب القطن في حلب، وكان عالماً في أبحاث بذور القطن المقاومة للجفاف والحرارة والآفات، ولقد أحيل على المعاش وهو في أوج عطائه، فرجع إلى قريته وغاب عن البحوث والاختراعات المبدعة، وكان الدكتور كمال الزيك، خبير القطن العالمي قد قال لوزارة الزراعة عندما استقدمته إلى سورية لاستشارته في أنجع السبل للقضاء على بقّ الإسقاط: عندكم هذا الرجل (ويقصد مدير مكتب القطن آنذاك) وتسألونني عن رأيي؟! إنه أستاذي وما عليكم سوى تنفيذ اقتراحاته!
مثال من دولة صديقة
زرت في عام 2004 جمهورية كوريا الديمقراطية الصديقة، الجمهورية التي تُعد شوكة في حلق الإمبريالية العالمية بزعامة أمريكا، الدولة التي صنعت القنبلة الذرية. ذهبنا لقضاء يوم في مزرعة حكومية.. سألت مديرها عن عمره، ابتسم وقال لي إنني متقاعد منذ ثلاث سنوات، لكنني تقدمت بطلب للاستمرار في العمل فوافقوا واستمررت.. بيد أن ما لفت انتباهي في إجابته قوله: إن المتقاعد عندما يعرب عن رغبته في الاستمرار بالعمل، يُحتفى به في بلدنا ويجري تكريمه بمكافآت مجزية وراتب إضافي، لأنه سيقدم خبرته الثمينة بدلاً من أن يمضي وقته متنزهاً في الحدائق العامة!
الحالة الصحية
يسمون الراتب التقاعدي في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية (معاش الشيخوخة)، وعندما ذهبت لأتابع معاملة التقاعد في تلك المؤسسة، سألت الموظفة التي سطرت لي تفاصيل معاش الشيخوخة: يا آنسة عن أية شيخوخة تتحدثون؟ قالت: عن شيخوخة صاحب المعاش! وفوجئت عندما قلت لها أنا صاحب هذا المعاش، فهل ترين أمامك شيخاً؟ كان ذلك أيها القراء الأعزاء قبل خمس سنوات. ولست حالة استثنائية، فنحن من جيل استفاد من التقدم الطبي والصحي، فإذا ما مرضنا كنا نتداوى بالمضادات الحيوية، وكنا نتعافى من أهم مرض خلال عدة أيام ونعود أصحاء أقوياء، ولهذا وصلنا إلى الستين وجُلّنا أصحاء أقوياء متقدو الذهن والذاكرة، فأية حكمة في تغييبنا وحرمان الوطن من خبراتنا ومهاراتنا ومعرفتنا؟!
الإقصاء لم يوفر حلاً لمشكلة العمل
إن إقصاء العاملين على الستين لم يوفر حلاً لمشكلة العمل في البلاد، فما زلنا نتحدث عن الحاجة إلى مئتين وخمسين ألف فرصة عمل سنوياً، وماتزال نسب البطالة هي ذاتها، بل ارتفعت مؤخراً بحدة. وفي رأيي أنه لو أُبقي على الخبراء المهرة في الوزارات والمؤسسات، ولاسيما الإنتاجية، لوفروا للأجيال الجديدة فرصاً أكثر. ومن الأمثلة أن مئة عامل نجار في مصنع أخشاب لن ينتجوا ولن يعملوا إذا لم يتوافر في المصنع عدد من (المعلمين) المهرة الذي يصممون ويرسمون النماذج ويوزعون المهام على المبتدئين.
أرقام هامة
لقد تضاعف عدد المتقاعدين في سورية خلال عشر سنوات من 360 ألف متقاعد في مطلع الألفية الثالثة إلى 650 ألف متقاعد حالياً، وأدى ذلك إلى زيادة العبء على صناديق التقاعد في ظل شكوى التأمينات الاجتماعية على سبيل المثال أن ديونها على الدولة والقطاع العام 134 مليار ليرة سورية.
6% فقط فوق الخامسة والستين
وما يغيب عن أذهان من يحاججون بفسح المجال أمام الطاقات الشابة للعمل، أن نسبة كبار السن في سورية الآن حسب الدكتور أكرم القش، مدير المعهد العالي للدراسات السكانية هي 6% فقط من مجموع الشعب، علماً أن هذه النسبة كانت 3% عندما بدأت الهجمة ضد من بلغوا الستين لإقصائهم وإفساح المجال أمام الشباب كي يعملوا، وهذا إما جهل بالأرقام أو مكر للتخلص من الخبراء المهرة طمعاً بامتيازاتهم، وما هكذا تورد الإبل وتبنى الأوطان.
إن العودة عن الخطأ فضيلة، وقد آن الأوان أن نعود عن هذا الخطأ وأن نطبق قانون العاملين الموحد، وأن نأخذ برأي المدير أو الوزير للإبقاء على الخبراء المهرة والفنيين ليعمر البلد.