سوء تغذية… وفقر دم
ليست العواصف التي تحدث في قعر الفناجين والوديان كتلك التي تهب في أعالي الجبال وأعماق البحار.
و الزوابع الزائفة لا تأخذ معها إلا الغبار والورق اليابس، وكل صفير حاد مرتفع قد لا يصدر إلا عن شيء فارغ وخاوٍ، إن بعض الشّخصيات المرتفعة العالية، قد لا يتناسب ارتفاعها مع قيمها وشرفها. ألا نرى أحياناً أشجاراً كثيرة كبيرة كالحور مرتفعة في قاماتها، متدنّية في عطائها؟ يصفر فيها الريح وتردّد عواء الذئاب وفحيح الأفاعي.
وأبداً لن ترضى العواصف الحقيقية أن تبقى حبيسة القضبان والكهوف، ولا النسور ترتضي بأقلّ من القمم أن تسكنها وتبني أعشاشها عليها. كذلك وُجِدت الأعلام والرّايات كي تبقى مرتفعة، لا أن تظل ملفوفة ومطويّة بين الأدراج وتحت الوسائد.
واخترع الإنسان السفن لا لتبقى قرب الشواطئ والخلجان، بل لتقتحم مجاهل البحار وأعماق المحيطات. لكلِّ مقام مقال، ولكلٍّ قدره ومكانته ورسالته في هذه الحياة، فلا يصحّ أن نمثل أدوار العمالقة ونحن أقزام، ولا أن نتسلّق الجبال وأيدينا في جيوبنا، ولا أن نستعير أجنحة الصقور لنضعها على أجنحة البعوض، ولا أنياب النّمور تصلح لأن تكون أنياباً للأرانب وبنات آوى، مَثَلُ ذلك كمثل من يبني القلاع من الثلج والجليدِ ليحتمي من أشعة الشمس، أو كمن يقيم السدود على مياه جارية. قد تسكن الأفكار العظيمة بعض الرؤوس الصغيرة العاجزة عن البوح والقول.. وهل لتلك الأفكار أي معنى إذا عجز أصحابها عن قولها أو كتابتها.. ؟
ولا جدوى من بَذر قمح منخور في تربة طيبة، أو زراعة الكرز والليمون في أرض عطشى حبلى بالأشواك والصخور. و ما أقصر قامتي إذا لم تحتو إلاّ على اللحم والعظم، وما أسوأ حظي إذا كنتُ قادراً على كتابة ما هو رائع وجميل وقصّرت يدي، وجبنَ قلبي.
إن سوء التّغذية وفقر الّدم لا يصيب الجسد فقط، بل هنالك سوء تغذية أفظع وأرعب يضرب الرأس ويعصف بالرّوح والنّفس، وإن عُسر الهضم لا يقتصر على المعدة، بل هناك عسر هضم أكثر إرباكاً في طريقة تعاملنا واستيعابنا وفهمنا لمن حولنا.. وإن العمى الحقيقي ليس عمى العيون، بل القلوب، والصّمم الأشدّ ألماً ليس صمم الأذن، بل العقل، فكثير من الناس خُلقت آذانهم لا لتُسمِع وتستمع بل لتكون ممرّاً للكلام لا أكثر ولا أقل.