«كمشة» ريش..!

أستغفر الله العظيم!. قالها سعيد الحزنان وهو عائد إلى منزله، وأضاف كمن يهذي: ماهذه المصادفة اللعينة؟! أنا لا أحتاج إلى هذه الابتسامة التي تدل على أنه قد رآني، ولا مجال للهرب منه.. ليَ الله.. سأتظاهر بأنني سأشتري وسأنتظره حتى ينتهي ويغادر المحل، ثم أنسحب بعد أن أعتذر لأي سبب كان ( لماذا كل هذا الارتباك؟!) صاحب المحل يعرفني جيداً ويعرف قدرتي الشرائية، فأنا  أدخل محلّه مرّة كل شهرين!

ابتسم سعيد الحزنان وهو يقترب من صديقه أبي جهاد العائد لتوّه من عمله بعد أن انتقل إلى إحدى المفارز الحدودية. وكان واضحاً أن ما تحمله سيارته الخاصة التي اشتراها مؤخراً ليس بالوزن الخفيف، إذ انخفضت مؤخرتها حتى كادت تلامس الأرض.

السيد أبو جهاد لم يكن يحلم يوماً بأن يكون رئيساً لإحدى المفارز الحدودية التي كانت على الدوام أشبه بالمصرف الذي يحصل بواسطته كل من ينتقل إلى تلك المفرزة على هبات وعطاءات ومكافآت وعلاوات. ويمكنك أن تطلق على المبالغ الضخمة ما تريد من ألقاب وصفات غير صفة الرشوة. نعم فالأخ أبو جهاد يكره الرشوة والمرتشين، ويذكر دائماً الحديث الشريف الذي يلعن الراشي والمرتشي وما بينهما، حتى ولو كان والده – طبعاً يضيف من ثقافته بهذا المجال الجملة الأخيرة.

اقترب سعيد الحزنان من صاحبه أبي جهاد وتبادلا عبارات الاطمئنان، بينما راح صاحب المحل يقوم بتنظيف عدد من الفراريج دون إعطاء المواطن سعيد أي اهتمام، فهو يعرفه ويعرف إمكاناته الماديّة كما ذكرت لكم سابقاً، ويعرف أنه لا يشتري فروجاً قبل انقضاء شهر أو أكثر على الفروج الذي سبقه:

ماهي أخبار الحدود أخي أبا جهاد؟!

الحمد لله كل شيء تحت السيطرة والأمور ممتازة.

يقولون بأن هناك عمليات تهريب؟!

كلام باطل يهدف إلى إضعاف الروح المعنوية والإساءة فقط. التجارة قائمة منذ أن بدأ الإنسان يدب على وجه الأرض. وكما تعرف فإن الحصار الجائر علينا لم نتأثر به بسبب هذه التجارة التي يدعوها البعض تهريب.. كلام جاهلين ليس غير.

قاطعه سعيد الحزنان وعينه على صاحب المحل الذي يقوم بتنظيف الفراريج بشكل لافت ومثير للانتباه، فالرجل يفرك جوف الفروج بالملح والفرشاة ثم يسكب قليلاً من الخل ويعود ويغسله بالملح والماء أيضاً:

وهل تعرفون كل ما يقوم هؤلاء المهربون بنقله سواء إلينا أو من عندنا؟!

بالتأكيد.. بالتأكيد. أقول لك كل شيء تحت السيطرة.

أنهى صاحب المحل تنظيف الفراريج وتقطيعها ووضعها في أكياس شفافة ثم في كيس أسود كبير، وخمّن سعيد أنها ثلاثة أو أكثر. ابتسم صاحب المحل للسيد أبي جهاد قائلاً:

إن شاء الله مأكول الهنا.. ربي يحميك بغربتك.

الله يعطيك العافية.. وكم ثمنها؟!

ثلاثة آلاف ومئتي ليرة.

فقط..؟!

لكم إكراميتكم سيدنا.. تعلمون ذلك..!

فتح السيد أبو جهاد محفظته وأخرج منها رزمتي نقود، الأولى بما يعرف بالدولار والثانية بالليرة السورية، ونظر إلى صاحب المحل وقال:

بالدولار أم بالعملة الوطنية؟!

هزّ صاحب المحل رأسه واغتصب ابتسامة صفراء وقال:

 بالعملة الوطنية.. ليس لديّ ثقة بهذا الدولار اللعين (يوم فوق ويوم تحت ).. ثم من أين لك بالدولار؟!

أولاد الكلب الذين يقومون بالتجارة عبرنا لا يتعاملون إلاّ بالدولار. نحن نقوم بتصريفه فيما بعد، ولكن اليوم الدولار (تحت ) على رأيك، لذلك لم أقم بالتصريف.

حمل أبو جهاد الكيس الأسود ورمى صديقه سعيد الحزنان بنظرة خبيثة، ثم قال لصاحب المحل:

من فضلك فروج لهذا المسكين على حسابي، لأنني أعتقد أنه نسي طعم اللحم في هذه الظروف اللعينة.

رشقه سعيد الحزنان بنظرة فيها الكثير من الاحتقار ثم قال:

إن نسينا طعم اللحم أفضل لنا بكثير من أن ننسى طعم الكرامة.

وقف صاحب المحل مندهشاً مما سمعه، بينما كان أبو جهاد يغلق باب سيارته وينطلق مسرعاً.أما سعيد الحزنان فقد نظر إلى صاحب المحل وقال:

بكم كيلو الفروج اليوم؟!

بخمسمئة ليرة؟!

إذاً.. من فضلك كمشة ريش وسجلها ع الحساب. ثم غادر المحل وهو يقول: ربنا لا نسألك ردّ القضاء، ولكن نسألك اللطف والمغفرة.!

العدد 1140 - 22/01/2025