التفكير بقلق مشروع!

غالباً ما يتندر اثنان على الأقل عوداً على جدلية ديكارت (أنا أفكر، إذاً أنا موجود)، وماذا لو لم يفكر أحدنا ترى هل يذهب إلى العدم؟ فالتفكير وما يجره من ويلات تأخذ صاحبه إلى حسابات البيدر والقمع وإبريق الزيت أصبح عبئاً فيما يبدو هذه الأيام، فثمة من يفكرون بقلق مشروع، وهذا في حد ذاته نوع من التفكير خفي لا تظهر ملامحه وآثاره جلياً، لأنه يسكن ارتعاش الأصابع وخفقان القلوب وقلق الرؤية ذاتها، وغالباً ما يُومئ للمجانين بابتسامة تقول (نيّالهم) لأنهم رموا وراء ظهورهم آفة التفكير ومعادلاته المركبة، لكن أولئك المجانين لاسيما من ظهروا كعقلاء بين ظهورنا، أنيقو الحديث باذخو الثياب، ناعمو الملمس ولكل مشكلة لديهم جواب، حتى أنه لديهم قدرات عجيبة على التنبؤ والاكتشاف، وبها يسابقون منجمي الفضائيات المستعدين دوماً لجلب الغائب وتجميل الحظوظ والتأكيد أن مبلغاً ما سوف يأتي حتى لو جاء من وراء الغيم.

هذا ما يجعل التفكير ومن يفكرون في موضع التشكيك دوماً من قبلنا، نحن من يستمع لمرافعاتهم في كل شأن كبر أم صغر، ألأنهم امتلكوا القدرة على الكلام فحسب، أم لأنهم يعيشون مفصولين عن الواقع ونتندر من جديد: لهم واقعهم ولنا واقعنا.

فكم يُمتدح التفكير في أزمان لم نشهدها، ولم نطلق صرختنا الأولى فيها، لأنه أعلى شأن من هجسوا به خلافاً لأيامنا الراهنة، تعبٌ في البال وزواغٌ في العيون ونسيان وتلكؤ وبعثرة حصى في درب طويلة، فمن يقبض علينا نفكر كي يكتشف ما نفعله، أن نفكر أو لا نفكر تلك هي الحكاية التي لا برء منها ولا شفاء مؤكداً منها، لأننا إن لم نفكر فسيتحرش التفكير ذاته بنا ويقبض على أرواحنا الساهرة في قلب ألمها، ويقبض على أصابعنا لحظة الكتابة، فلا فكاك من شياطينه المختبئين تحت ألسنة الوقت، وفي ظل المرايا، إذن أنت تفكر فلعلك تقدم على أمر جلل، اللهم إذا كان تفكيراً فحسب، كسباحة تكتفي بمد الأرجل إلى الشاطئ، ولا توغل في المياه العميقة، أو كمن يطل على سهلٍ فيرى وردةً ولا يرى الحديقة بأسرها.

 كان جورج برنارد شو -الفيلسوف- الساخر يشير إلى رأسه الأصلع حينما يوجه إليه السؤال: كيف تصف واقعنا؟ كأنه يقول غزارة إنتاج وسوء في التوزيع، وبوصفه مفكراً يتندر الناس آنذاك بأنه قد خسر جزءاً كبيراً من شعر رأسه، فلا عزاء لمن فقد شعر رأسه بأن يتحسر إنه يفكر، أو ربما كان ذات يوم مفكراً!.

وفي زمن كهذا تشيع فلسفة غريبة لعل اسمها الحصْري (التطنيش) لتكسب عيشك ولتعيش، وعليه تتراكب المفردات (طنش تعش تنتعش)، هي دعوة إلى فن العيش بأبسط السبل ولا تكلف الناس شيئاً، لنصبح في مديح الكسل واسترخاء العقل أمام المعضلات العتيدة، لطالما شُغل الناس بشياطين التفاصيل فليريحوا شياطينهم قليلاً، لتنعم العقول بإجازات طويلة، ولا بأس بأفعال النسيان والذريعة أن الذاكرة مثقوبة على الدوام، ولنتغنَّى بنعمة النسيان ألم تقل الأغنية ذلك؟ يا للتفكير كم غدا مسكيناً حينما يسكن الرؤوس الحامية القلقة، فلا هو ينجز فيها برده وسلامه، ولا هو يهجرها طواعية، فلنفكر إذاً أننا لا نفكر، فنريح الرؤوس ولو قليلاً لأنها كلّت وخشية أن تعمى فلا بأس بالهزل المصفى، واختراع الضحكة قسراً، وحدها من تنجي، ووحدها من ترسي قلوباً كلت وكادت أن تعمى.

أطال المفكر (رودان) جلسته تلك ومازال يفكر حتى الآن، لكأنه أضحى بذاته قطعة مفكرة يمر من أمامها الناس كأنهم لا يفكرون بأن من يفكر أمامهم قد نحته الصخر صبراً، وظلت اليد ممسكةً ذقن صاحبها علّ فكرة ما قد نسيها ومازال يحاول تذكرها بقلق مشروع.

العدد 1140 - 22/01/2025