الثالوث المهشم «الفقر.. البطالة.. الفساد» (1من2)
ثلاثة أمراض إن ابتليت بها أمة تقلصت درجات المناعة اتجاه الأخطار، وتهشمت البنى لدرجة يسهل الاختراق. ثلاثة أمراض فيما بينها درجة من الارتباط الطردي، وكلما ازدادت معدلاتها ازدادت درجة الخطر، وإن لم يسارع للترميم والإحاطة بها، فدائماً البنى معرضة للأخطار التي قد تصل إلى الانهيار. وسنبتدئ بالفقر لكوارثه الكثيرة، ولأنه مرض قاتل وحتى لدرجات تصل إلى أن يتخلى الإنسان عن إنسانيته، وقيل عنه الكثير والكثير حتى وصفه بعض العظماء بأكبر الكبائر وأعظم المجرمين، وهددوا بقتله لو تقمص شخصية الإنسان.
الفقر رؤية شاملة تاريخية اجتماعية اقتصادية
الفقر هو ذلك الداء الخطير الذي له انعكاسات كارثية على مختلف نواحي الحياة ومختلف مجالات التنمية، فهو بذلك مثل قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، هذا الانفجار يتسبب بمشاكل كثيرة وكبيرة وخطيرة، سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. وقد قيل عنه الكثير ووصف بأقسى العبارات وقورن بأفدح الأشياء، وكان المسبب للكثير من الثورات السياسية والاجتماعية، ولكثير من التشكيلات الإيديولوجية، وكان من أهم المعايير للتقسيم بين اليمين واليسار من بدء الإسلام إلى يومنا هذا.
(لو كان الفقر رجلاً لقتلته) و(الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن). من أهم ما قيل عن الفقر للتعبير عن شروره وانعكاساته، وللحديث عن الكره لهذه الظاهرة ومسببيها وتعاطف قائلهما مع المنتسبين إليها.
وقد وجهت جميع الديانات السماوية والشرائع السماوية وخاصة الإسلام عبر القرآن الكريم والرسول (ص) والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم والصحابة الأفاضل للقضاء على هذا الداء الخطير، ولتكريس مفهوم العدالة الاجتماعية والدفاع عن حق الإنسان في العيش الكريم.
وفي القرنين الماضيين وخاصة في بداية القرن الماضي كان الوضع الاجتماعي المتردي الناجم عن إفقار البشر من خلال علاقات لا إنسانية استغلالية هو المسبب للكثير من الثورات، وخاصة ثورة 1917 التي كانت بداية لحراك فكري وإيديولوجي كبير وشامل لنحو نصف الشعوب، وكانت منارة لثورات وأفكار جديدة ذات صبغات مشتركة في الأهداف ومتعاونة في الأداء مع ارتباطات وخيوط مختلفة في التبعية، هذه الثورات حققت المكاسب لشعوبها التي كانت تعاني الاضطهاد والتفقير وكذلك لشعوب المعسكر الآخر، فقد اضطرت القوى الغربية الإمبريالية إلى تقديم الخدمات والضمانات الاجتماعية للمحافظة على سوية معينة من المعيشة.
وفيما يتعلق بمنطقتنا، فقد كان الفقر والفقراء الأساس والمعيار الذي انطلقت منه الثورة الفكرية والإيديولوجية عبر سياسات متفق عليها بين مختلف القوى اليسارية ذات الانتماءات القومية والاشتراكية والشيوعية، وكان الفقراء أساس البناء والوقود الذي قاد المسيرة النهضوية، القوية، المستقرة المستمرة، فكانت البدايات في إنجازين قويين صحيحين قد غيرا الخريطة، وأسسا بقوة لبناء نهضوي حضاري شامل، وساعدا على اجتثاث الفقر بحيث وصلنا إلى مراحل انعدم فيها نتيجة سياسات متكاملة تستند على أفكار وإيديولوجيات تتناسب مع الواقع، وقد كان البدء في فرض سياستي الإصلاح الزراعي والتأميم بحيث يملك العامل والفلاح أداة عمله، ويأخذ حقوقاً تضمنها له القوانين والدستور التي وضعت من قبل الحزب والدولة، وكانت هذه السياسات في زمنها تتناسب مع الواقع ومع التطلعات. وهنا نقول من يريد أن يقيّم هذه التصرفات فليقيمها ضمن الإطار الزمني والمكاني ويدرس مدى الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية لهاتين الممارستين، ومن ثم كان هناك ثورة على مختلف الصعد من خلال دعم المواد الغذائية، تعليم وصحة ذات جودة عالية قياساً بالإطار الزمني، قطاع عام قوي وفاعل شغل معظم الأيادي العاملة، اندفاع وتضحية ووفاء لهذه المبادئ بحيث يمكن أن نقول إنها كانت مرحلة القضاء على الفقر في سورية وإعادة الحقوق لأصحابها بفضل إيديولوجيات مناسبة وصادقة.
هذا النهج الفكري والإيديولوجي على المستوى العالمي وعلى مستوى المنطقة قد مورست ضده جميع الأساليب من أجل إجهاضه وحرفه إلى ما يناسب القوى الغربية التي أفقرت الشعوب عبر الاحتلال المباشر قديماً لنهب الثروات الباطنية والمواد الأولية، ثم بعد ذلك عبر الاحتلال غير المباشر عبر أدوات تابعة وسياسات متناسبة مع أهدافهم بحيث يتم شراء الثروات بأسعار بخسة وعن طريق منع التنمية وقطعها، حتى تظل هذه الدول مصدراً للمواد الأولية للدول الغربية وسوقاً لاستهلاك منتجاتها، ثم صنعت أساليب جديدة لممارسة السيطرة والتبعية والنهب، ولكن بقي الهدف الواحد المتمثل بإضعاف التنمية وإفقار الشعوب من أجل استثمار فقر هذه الشعوب في الوقت المناسب. وبعد ما حصل للاتحاد السوفيتي الذي ارتأى إعادة البناء للتخفيف من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية ومن الحرب الباردة التي كلفت مئات المليارات من الدولارات، وسخرت وسائل إعلام غربية وقوى تابعة للغرب من أجل إضعاف المعسكر الشرقي اليساري، وبالتالي الرؤية الروسية لإعادة البناء وفق اقتصاد السوق أولاً، ثم الترميم الاجتماعي لهذا النهج. ولكن على الرغم من التغيير الروسي، ظلت هناك دول ومنها سورية تقود اللعبة بهدوء، بحيث استطاعت أن تتجاوز تلك الظروف الصعبة بما لا ينعكس بشكل كبير على مختلف أنماط التنمية، ومن ثم سخّر الغرب أدوات جديدة كان قد أنتجها لاستكمال ممارسة أهدافه المتمثلة بعولمة السياسات نهو نهج جديد ليبرالي ونيو ليبرالي، بفرض سياسات اقتصادية عبر منظمات دولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وعبر مؤسسات إعلامية ضخمة لغسل الأفكار والدماغ وعبر نشر ثقافة الجودة كما تريدها لا كما نريدها، وذلك من أجل بقاء الدول النامية مصدراً للمواد الأولية من جهة وكذلك لخلخلة البناء الداخلي من خلال نشر القنابل الموقوتة المتمثلة بالفقر والفقراء، وفرض سحب سيطرة الدولة والتقليل من الإنفاق الحكومي على الأمور الاجتماعية، برفع الدعم وإقصاء القطاع العام، وفرض الخصخصة بأشكالها المختلفة، وتراجع دور الدولة عن القيام بالأدوار الرئيسية التي كانت تقوم بها، بما ينعكس سلباً على جميع الخدمات التي كانت تقدم للمواطنين.
وسياسات كهذه تنعكس سلباً على استدامة التنمية واستقرارها واستقلاليتها التي تهدف إلى التوافق والتكامل بين البيئة والتنمية من خلال ثلاثة أنظمة هي: نظام حيوي للموارد، ونظام اقتصادي، ونظام اجتماعي. ويعني النظام الأول القدرة على التكيّف مع الإنتاجية البيولوجية للموارد لعملية التخليق والإنتاج، لتكوين الموارد الاقتصادية واستخدامها بطريقة منظمة لا جائرة.
أما النظام الاجتماعي فيعني توفير العدالة الاجتماعية لجميع فئات المجتمع. وأخيراً النظام الاقتصادي، وهو يعني القدرة علي تحقيق معادلة توازن بين الاستهلاك والإنتاج، لتحقيق التنمية المنشودة التي تهدف إلى: التحسين المستمر في نوعية الحياة، والقضاء علي الفقر المدقع داخل المجتمع، والمشاركة العادلة في تحقيق مكاسب للجميع، وتحسين إنتاجية الفقراء، وتبنّي أنماط إنتاجية واستهلاكي والانضباط في الأساليب والسلوكيات الحياتية للمجتمع.
و نظراً للأخطار الناجمة عن ظاهرة الفقر فقد رُبط بأحد حقوق الإنسان، وكذلك عدّه تقرير التنمية البشرية الأخير الذي تصدره الأمم المتحدة من أحد أهم الركائز التي تهدد الأمن الإنساني. إذ يتضح لنا مما سبق أن ربط الفقر بحقوق الإنسان، يمثل مرحلة أساسية ضرورية للوصول إلى تجريمه كما جرّمت العبودية. وقد بدأ هذا الربط تدريجياً منذ الثمانينيات بصدور إعلان الحق في التنمية سنة 1986 الذي يستمد جذوره من المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) التي تنص على أن (لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمّل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته).
وقد فصل العهدان الدوليان ذلك (1966) ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهي حقوق لئن عولجت أساسا من حيث هي حقوق فردية، فإن في العهدين ما يتعلق بالحقوق الجماعية للشعوب، وما يهيئ لصدور إعلان الحق في التنمية بعد عقدين من ذلك، وهو إعلان يندرج بمواده العشر بوضوح ضمن حقوق الشعوب، باعتبار تنمية الشعوب شاملة بطبيعة الحال للأفراد،إلاّ أن الجديد نسبياً هو ربط الفقر بحقوق الإنسان في المستوى النظري، وذلك بتجاوز المفاهيم المرتبطة بالطبيعة والقدر إلى اعتبار الفقر انتهاكاً لحقوق الإنسان، أي بتجاوز الحتمية، سواء أنظر إليها من الزاوية الدينية القدرية أم من الزاوية الاقتصادية والاجتماعية كإفراز طبيعي للنمو.
وهكذا أصبح الفقر يُعتبر التحدّي الأخلاقي الأكبر في عالم اليوم. وهو تحدّ يستحث همم الحكام والمثقفين وعالم الأعمال وأعضاء المنظمات غير الحكومية من نقابات ومنظمات حقوق إنسان، فضلاً عن سائر المواطنين المهتمين بقضايا المجتمع، ذلك أنه لا يمكن الحديث عن تنمية مستدامة دون القضاء على الفقر، يمثل لا انتهاكاً لواحد من حقوق الإنسان فقط، وإنما يمثل انتهاكاً لجميع حقوقه، لذلك بدأ الحديث في العقد الأخير خاصة عن الفقر باعتباره انتهاكاً شاملاً لحقوق الإنسان. وقد ذهب نلسون منديلا أبعد من ذلك في قمة كوبنهاغن حين وصف الفقر وصفاً بليغاً باعتباره (الوجه الحديث للعبودية).
وبالتالي فالفقر هو سوء توزيع الثروات واستغلالها على المستوى العالمي أو على مستوى الدول، بحيث أن جزءاً بسيطاً من السكان يملكون معظم الأشياء، مقابل الأغلبية التي لا تملك حتى قوت اليوم، هذه السياسات تؤدي إلى استشراء الفساد والمحسوبية، فيتخلخل الاستقرار السياسي نتيجة السيطرة الاقتصادية والاجتماعية للقلة القليلة.