إغواء الكتابة

تغوينا الكتابة فنكتب، مع إحساس داخلي يداعب ملكة الإبداع، ننقاد وراء بياض الورق ولمعان الحبر فوق الصفحات الصقيلة. شعور غريب يتملكنا ونحن ننثر مواجعنا أمام عيوننا، تماماً كولدٍ شقيّ خرج لتوّه من مأزق مياه عميقة، فأخذ يروي لأصدقائه حكاية الطوفان، ومغبة الغرق، ونشوة الخلاص.

الطفولة لا تغادرنا، وكأن الإبداع مرتبط ببراءتها، ومشدود إلى تلك الروح المفعمة بالتلقائية والبساطة والوضوح. وكأن قدر المبدع أن يبقى طفلاً، ألاّ يكبر إلاّ بحدود ما تسمح له روحه الطفلة في التجوّل بين متاهات الحياة الماديّة المرهقة. حينذاك فقط يكبر، بمعنى يزداد منسوب الواقعية لديه على حساب الأحلام والرؤى البعيدة كل البعد عن منطقية الواقع وتعقيداته.

الكتابة انزياح نحو الإنسانية، ومحاولة للخروج من ضغط ما يحيط بنا من أشياء لا ترحم، ومن بشر أدمنوا سلوك الطرق التي يرسمها جانبهم الحيواني، أو المُتَحيْوِن. انزياح نحو الانسانية. أعتقد أنه توصيف دقيق إلى حدّ بعيد في ما يتعلّق بالكتابة والإبداع. والكتابة انحياز إلى سبر المجاهيل، ربما نحظى بجديد، أو بغريب. وهو ما نأمله حين نكتب، وهو البحث والتقصّي في ثنايا الأشياء، وفي التفافات الدروب الملتوية في الأصل. هناك تكمن الأشياء النادرة، الجواهر التي لا تغري سوى من يعرف القيمة الحقيقية للأفعال المضارعة، والمستقبلية.

لماذا تقتضي الطفولة أن نركض تحت أمطار الخريف؟وأن نهمل أشياءنا الضرورية في حضرة من نحبّ؟ أن ننسى أو نتناسى؟ أن نتظاهر باللامبالاة، ونحن نتحرّق حزناً على أشيائنا الحلوة؟ وأن نبدي مسامحة عجيبة وننسى اهتمامنا وحرقتنا. كل ذلك لا يهمّ، ما دمنا نضحك أو نبتسم بسرور حقيقي، أو بتمثيل لا يمكن إخفاؤه. وكما تقتضي الطفولة تقتضي الكتابة. نحن أطفال حين نكتب، وشيوخ حين نقرأ. مفارقة مدهشة بين فعلين يصبّان في وعاء واحد، أو يغرفان منه، المعرفة هي الإطار العام لما نفعل، كتابة وقراءة.

ما أصعب أن ينهزم كاتب! وما أصعب ألاّ يستطيع ترميم هزيمته! هنا تكون الهزيمة مضاعفة، لأنه ليس شخصاً، وإنما عالَم كامل، ممتلئ بالناس والأشياء والعوالم والأخيلة، وانهزامه انهزام لتلك العوالم كلها، العوالم الخلاّقة، والولاّدة باستمرار. هنا دور الأفعال المضارعة والمستقبلية. المبدع غالباّ ما يُمتحَن بها، بمعنى اختبار مدى اتّساع آفاقه ورؤيته. وكلما اتسعت الآفاق زادت كارثية الهزائم. الأمر يشبه إلى حدّ ما جفاف السواقي أمام طيور عطشى، لنتخيّل كارثيّة الجفاف ذاك! وللأسف إنه جفاف تعمل عليه مؤسسات بكامل كوادرها، مؤسسات من أولى مهامها إبقاء تدفق الأنهار، وزيادة غزارة الينابيع.

انهزام الكاتب من أهم مظاهر ونتائج النفاق الثقافي في عمل المؤسسات الثقافية، وهذا جانب يطول الحديث عنه، نكتفي بظاهرة كاملة الوضوح لمن يرغب في الرؤية. كم من القائمين على رأس مؤسسة ثقافية يتبجحون دوماً بهمومهم الثقافية في الاهتمام بالمثقفين؟ وفي الحقيقة هم يبقون على رأس تلك المؤسسة سنوات طويلة، ولا همّ لهم سوى إقصاء وإبعاد حملة الفكر والمثقفين الحقيقيين. بحيث تظهر أسماء لأشباه مثقفين، وعلى مراحل متباعدة، في حين يحتل الواجهة ذاك المسؤول، فيظهر وكأنه يختصر بشخصه ثقافة أمة بأكملها. هو النفاق الثقافي المتغلغل في كثير من المؤسسات والأشخاص، فيلوّث البيئة الثقافية بمجملها، ويروّج لصورة مشوهة عن واقع يحتاج إلى ترميم.

العدد 1140 - 22/01/2025