الثالوث المهشم «البطالة» (2من2)
ويلعب الفقر دوراً كبيراً في تخفيض قدرة الأسرة على إرسال الأولاد إلى مدارسهم، أو إخراجهم منها قبل أن يتموا تعليمهم، وكذلك يلعب دوراً في عدم توفر الإمكانات المالية من أجل التدريب والتأهيل للحصول على المواهب والتقنيات والأفكار المساعدة على دخول سوق العمل، إضافة إلى أن الفقر يعني عدم توفر الموارد المالية من أجل استثمار أفكارهم وقدراتهم إن وجدت في مشروعات صغيرة تدر عليهم بعض المال. فالفقر هو الذي يتسبب أكثر من غيره من العوامل المناوئة في ظهور الكثير من المشاكل السلبية، مثل أنواع خطيرة من المرض وانتشار الجريمة والعنف. فعلى سبيل المثال يتراوح عدد الأطفال الذين يموتون تحت سن الخامسة بسبب الجوع ونقص التغذية في العالم بين عشرة ملايين واثني عشر مليون طفل في العام. فثمة علاقة قوية إذن بين الفقر والجوع، بمعنى أن الفقر هو سبب أساسي في انتشار الجوع كظاهرة على مستوى العالم، مع وجود مفارقة غريبة وهي أن الجوع الأكثر انتشاراً الفقراء فيه يعانون الجوع نتيجة عدم توفر المال اللازم للحصول على الطعام، مما يعني ضمناً أن الوسيلة الوحيدة لمحاربة الجوع والقضاء عليه باعتباره أحد الأمراض الاجتماعية الخطيرة هي توفير الدخل الكافي عن طريق إيجاد فرص العمل، والقضاء على البطالة. والارتقاء بمستوى التعليم والتأهيل لممارسة الأعمال والأنشطة المثمرة التي تدر الأموال القادرة على تامين الحاجات الضرورية لتأمين مستوى معيشي جيد.
ولكن قد يظن البعض أن مخاطر البطالة الظاهرة أو السافرة أكبر من مخاطر البطالة المقنعة وقد يكون ذلك صحيحاً في المدى القصير من حيث ما تشكله البطالة السافرة من أمراض اجتماعية ونفسية وأمنية، والتي في حال زيادة حجمها قد تؤدي إلى اضطرابات سياسية وأمنية واجتماعية. وعلى الرغم من خطورة البطالة الظاهرة وفق حجم معين، لكن خطر البطالة المقنعة لا يقل في المدى الطويل من حيث انعكاسه على الإنتاجية بشكل عام وإنتاجية المؤسسة بشكل خاص، وقد يؤدي إلى خسارة بعض القطاعات وتحولها إلى عبء. فبالنسبة لهذا النوع من البطالة فقد أصبحت ظاهرة مرئية ومنتشرة في أغلب مؤسسات القطاع العام والأجهزة الحكومية، وتتمثل بوجود أعداد من اليد العاملة تزيد عن الحاجة الفعلية مما يؤدي إلى تدني مستوى الإنتاجية للعاملين، وضعف الكفاءة في تشغيل هؤلاء العاملين الأمر الذي ينعكس سلباً على ربحية المؤسسات المشغلة، ويحول دون إمكانية زيادة دخول العاملين فيها، وبالتالي استمرار التأثير السلبي على نفسية العاملين وعدم إشباع حاجاتهم، إضافة إلى الحساسية المفرطة بين العاملين وزيادة التكاليف الإدارية والأعباء على المؤسسات، وغالباً تؤدي إلى هجرة الكثير من الكفاءات والعقول نتيجة عدم التوظيف حسب الإمكانات أو لمحاباة الآخرين أو بسبب الفساد الذي لا يقبل جزء كبير منهم من السير وفق منظومته، مما يؤدي إلى عزلهم. وهذه السلبيات الخطيرة الناجمة عن هذه الظاهرة تفرض رصد هذه الظاهرة بكل دقائقها وتفاصيلها تمهيداً لحل هذه المشكلة، وهذا لا يأتي بغوغائية أو بالتنظير، إنما يجب أن يعتمد على معايير ودراسات دقيقة تخص كل مؤسسة، فقد ذكر التقرير الاقتصادي العربي الموحد وتقارير الأمم المتحدة أن إنتاجية العامل العربي في اليوم هي 26 دقيقة فقط لا غير.
وأن إنتاجية كل عامل واحد في الاتحاد الأوربي توازي إنتاجية عشرين عاملاً في سورية، وحسب بعض الاختصاصيين فإن عدد العاطلين عن العمل يزيد على 3 ملايين شخص، وهذا يشكل نحو54% من قوة العمل في سورية، (طبعاً على الرغم من معرفتنا بظاهرة التضليل الرقمي الذي يمارس كل حسب حاجته لتبرير أفعاله وسياساته). ونتيجة ذلك تزيد الخسائر على 11 مليار دولار سنوياً، كما أن البطالة المقنعة في سورية تحتاج إلى توفير ما لا يقل عن 40 مليار دولار لتحديث الاقتصاد الوطني. وقبل الغوص بإجراءات كهذه لا بد من الخوض في أسباب تفشي هذه الظاهرة، ويمكن تلخيص أهم النقاط التي أثرت وما تزال تؤثر بشكل متزايد في البطالة المقنعة وتكريسها:
-توسيع الملاكات: على الرغم من وجود فائض من الأفراد والموارد البشرية يفيض أو يتوافق مع احتياجاتها من تلك الموارد، ولكن غالبًا يتم تجاوز هذا الملاكات العددية والتحايل عليها من خلال التعيين بعقود أو بالوكالة أو بطرق أخرى تلبية لحاجة معينة أو تلبية للوساطة أو المحسوبية، ثم تلجأ الشركة بعد ذلك إلى تثبيت هؤلاء عن طريق المسابقات الوهمية، وغالباً ما يكون هناك سوء توزيع في العمالة، فيكون في بعض الأقسام فائض شديد وفي البعض الآخر نقص شديد. وفي معظم الأحيان تقوم الهيئات والمؤسسات والإدارات الحكومية بتوسيع ملاكاتها مبررة ذلك بإعادة الهيكلة أو زيادة النشاط الإنتاجي، وهو ما يؤدي إلى توزيع العمل نفسه على أكثر من شخص مما يقلل من إنتاجية الجميع، وهنا يجب أن يكون التعيين حسب الحاجة والكفاءة، وهذا لا يعني عدم التوسيع والزيادة في القطاعات التي تحقق ربحية، وهناك جدوى من التوسع الاقتصادي فيها.
– مشكلة الفساد الإداري: يلقي الفساد الإداري بظلاله على البطالة المقنعة بشكل كبير، ذلك أن بعض المديرين الذين يغلّبون المصلحة الخاصة على المصلحة العامة لن يكونوا قادرين على متابعة العمل ولن يكون العاملون موزعين توزيعاً مجدياً وحسب الكفاءة، ويصبح العمل محصوراً بعدد من الأشخاص القريبين منه الذي يتحكمون بمقدرات الشركة أو المؤسسة وفقاً لمصالحهم.
– مشكلة تدني الأجور الذي يقتضي وجود عمل ثان: يستهلك العمل الثاني لصالح جهة خاصة تستهلك وقته بالكامل أو القيام بأعمال مجهدة ولساعات متأخرة من الليل فيأتي إلى العمل منهكاً في صباح اليوم التالي ولا يقوم بواجبه كما يجب، ويعتبر فرصة الدوام فترة استراحة إذا لم تحن له فرصة الهروب، وتزداد بطالته يوماً بعد يوم أو تكثر أخطاؤه نتيجة الإرهاق.
– التعيين بعيداً عن المؤهل والاختصاص وبعيداً عن الكفاءة.
وأخيراً نقول إن موضوع البطالة لم يطرح بحيادية واقعية حتى الآن، فلا يمكن القبول بالتصريحات الضبابية التي لا تعتمد على أسس وأرقام دقيقة، وإنما بما يخدم ويبرر تنفيذ سياسات معينة، مثلما حدث عندما ضُخّم الرقم بالشركات الإنشائية عندما كانت النية تتجه لتصفية القطاع العام وبدءاً بالإنشائي الذي كان الأس لبناء سورية الحديثة، وأهمل وقلصت ساحات عمله بشكل مبرمج علماً أنه يحوي آلات مرمية في مدافن الآليات، وكانوا بعد أن ترسو عليه التعهدات تعطى للقطاع الخاص وأحياناً بشكل وهمي، فالتنفيذ والآليات تابعة للعام والمردود للخاص.. وهنا لابد من اتباع معايير وأسس لقياس هذه البطالة وتأثيراتها من خلال:
1- معرفة معدل البطالة المقنعة في القطاع العام بإجراء مسح ميداني يشمل بعض مؤسسات القطاع العام والأجهزة الحكومية.
2 – تحديد أماكن تموضع البطالة المقنعة وذلك حسب: طبيعة الأعمال – مستويات تأهيل العاملين – المستوى الوظيفي.
3 – تقييم أثر البطالة على مستوى المؤسسة.
4 – تقييم أثر البطالة المقنعة على المستوى الاقتصادي العام.
5 – معرفة وحصر الأسباب التي أدت إلى تفاقم الظاهرة حسب كل مؤسسة.
6- التعرف على خصائص البطالة المقنعة في الدولة، من حيث مستوى التعليم ومستوى المهارة والعمر والجنس وغيرها، وبالتالي هنا لابد من بعض الإجراءات اللازمة للتخفيف منها باتجاه القضاء عليها.
7- إعادة تدوير العمالة الفائضة في بعض المؤسسات التي تعاني زيادة كبيرة، وتوزيعها على المؤسسات التي تحتاج فعلاً إلى عمالة.
8- محاولة وضع أنظمة تربط الأجر والترقية والترفيع بالعمل والإنتاج، والإقلاع عن منح الأجور في بداية أو نهاية الشهر، سواء أنتج العامل قيمة مضافة أم لا.
9- التعيين حسب الكفاءة والمؤهلات واجتثاث الفساد والفاسدين من المؤسسات العامة.
10- – تعديل القوانين بحيث تحمي العاملين في القطاع الخاص وتعطي الثقة بهذا القطاع كالقانون 17 مما يخفف الرغبة في التوظيف بالقطاع العام حصراً.
11- تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتصحيح السياسات المالية والنقدية وخاصة سياسة الإقراض بما يحقق الغاية الحقيقية للقرض من حيث الجدوى الاقتصادية، ومتابعة التنفيذ على أرض الواقع..
تواجه الشركات والمؤسسات الأوربية حالياً نسب بطالة مقنعة مرتفعة قللت من معدل إنتاجية موظفيها إذا ما قورنت بنظيرتها الأمريكية، ومن هذه المقالة يستنتج أن الإنتاجية المرتفعة في أمريكا والناتجة أساساً عن جهاز وظيفي رشيق تعني بالضرورة أن نمو الاقتصاد الأمريكي سيترافق مه نمو مضطرد لمعدلات التوظيف وانخفاض مقابل في معدلات البطالة. على النقيض من ذلك، سيكون تجاوب سوق العمل الأوربي بطيئاً للنمو الاقتصادي، فالشركات والمؤسسات هناك تحوي بالأصل على موظفين بمعدلات إنتاجية منخفضة، مما سيوجه الشركات عند تعافي الاقتصاد إلى محاربة البطالة المقنعة عن طريق الضغط على موظفيها لزيادة إنتاجيتهم، عوضاً عن تعيين الجديد منهم. وبالتالي البطالة بكل أنواعها فوق معدل معين، لأخذ البطالة التقنية بعين الباحث، مرض خطير ينجم عنه آثار سلبية اجتماعية واقتصادية وسياسية وأمنية تهشم البنى وتفتح الاحتمالات أمام المجهول للبلد الذي تنخره، وأول خطوة للحد منها هي الإحاطة بها عبر تشخيصها وفق أرقام دقيقة تفصل كل هيكليتها، من حيث توزعها النسبي الجغرافي العمري النوعي، واختيار التشريعات والقوانين اللازمة للحد منها سواء أكانت استثمارية أو تحرير مواد وسلع ومنع استيراد أخرى، وعن طريق إقامة الصناديق الاجتماعية التي تخفف من آثارها، ريثما يتم تأمين فرص العمل لبعض المصابين بهذا المرض.