إدوارد سنودن: رجل القرن (2 من 2)
لم يستطع سنودن أن يكتم في سرّه ما رآه، واستطاع بفعل عبقريّته في الحقل الإلكتروني أن يرى أكثر مما كان مسموحاً أن يراه. حزم أمره وقرّر فضح أسرار الإمبراطوريّة الاستخباراتيّة حول العالم. عند الحديث عن نظام توتاليتاري فإن كلمة (شمولي) لا تفي بالغرض، إذ لم يسبقه نظام (نازي ولا شيوعي زائف). أمريكا تتجسّس على العالم بأسره. ويجري التلاعب بعقول الأمريكيّين والأمريكيّات عبر إقناعهم أن وكالة الأمن القومي لا تريد منهم إلا ال(ميتا داتا) (وهذا الخطاب استعمله الفريق الحريري، من أجل أن يفتح لبنان مشرّعاً أمام التجسّس الأمريكي والإسرائيلي، وعمليّة التحقيق والاتهام في اغتيال الحريري، والدليل الظريف عن شبكة الاتصالات ما هي إلا من صنع وإعداد الجهاز الاستخباراتي الأمريكي، رغم الكلام الدعائي عن عبقريّة أفذاذ في (فرع المعلومات)) مع أن ال(ميتا داتا) تتعلّق بخصوصيّة الأفراد، وهي ملك لهم وليست ملك أيّ حكومة. القانون الأمريكي يمنع على أجهزة الاستخبارات الأمريكيّة التجسّس على أمريكيّين، لكن إدارة بوش (وبموافقة من الحزب الديمقراطي الخانع في أمور (الأمن القومي) الذي يحتكر الحزب الجمهوري وجناح المحافظين الجدد فيه تعريفه العويص) عدّلت في قانون المنع عام ،2007 وسمحت بالتجسس على المواطنين تحت عنوان محاربة الإرهاب (أنشأت الحكومة محكمة خاصّة لكنها ترفض طلبات الحكومة للتجسسّ على مواطنين بمعدّل مرّة واحدة من كل 2000 طلب). والتيّار الحريري سوّق لفتح خزائن خصوصيّة الشعب اللبناني بلغة الحكومة الأمريكيّة التجسسيّة نفسها، لأن لغة هذا التيّار ليست ملكاً له، كذلك شعاراته وقراراته ومواقفه ليس ملكاً له أيضاً.
كذبت شركات التواصل والاتصالات الكبرى عندما زعمت أنها ذهلت عندما اكتشفت مدى التجسّس الحكومي الأمريكي على ملفات زبائنها. هي كانت تعلم. وحدها شركة (آي. بي. إم) لم تصدر بياناً توضيحيّاً لأن أمنها على شبكة التواصل من أمتن وأصلب الأنواع. الشركات الأخرى سهّلت عمليّة التجسس على مواطنين حول العالم. عرف سنودن أن الإعلام الأمريكي سيغطّي تلك الفضيحة، فاختار أشجع صحافي أمريكي لنشر ما حصل عليه. عنيت الرفيق غلين غرينوود، الذي تخطّى كل الممنوعات في تغطيته لجرائم الحكومة الأمريكيّة حول العالم (وهو يعيش في البرازيل كي يكون بمنأى عن الملاحقة الحكوميّة، كذلك تعرّض صديقه لمضايقة في لندن بسبب مواقف غلين). عرف غرينوولد أن الصحافة العاديّة التي تسلّم بحق الحكومة في تقرير ما يجب نشره وما يجب حظره في مجال (الأمن القومي) – هذا العنوان الفضفاض والذي باسمه تُرتكب جرائم الحرب حول العالم – لن تجرؤ على كشف المستور، هي تتستّر. هذا الأسبوع نشرت (واشنطن بوست) وثيقة لسنودن عن قيام وكالة الأمن القومي بتسجيل كل مكالمات بلد ما، لكنها لم تسمّ البلد بطلب من الحكومة (يبدأ أوّل حرف من اسم ذلك البلد ب(لام)، لعمري؟).
كشف سنودن أن الاستخبارات الأمريكيّة تتعامل مع سكّان الكرة الأرضيّة على أنهم عبيد للإمبراطوريّة، لا تحترم لهم خصوصيّة أو حقاً من حقوق الإنسان. في هذا الأسبوع بالذات، وفي مفاوضات حول اتفاقيّة دوليّة، رفضت أمريكا، ومعظم الدول، أن تعترف بتطبيق قوانينها حول حقوق الإنسان على بلاد خارج أمريكا. هي بمعنى واضح حافظت على حقّها في ارتكاب جرائم حرب حول العالم، وهذا الحقّ تصرّ عليه الإدارات الأمريكيّة، الجمهوريّة والديمقراطيّة على حدّ سواء.
نشرت الولايات المتحدة أقماراً اصطناعيّة وقواعد عسكريّة وتجسسيّة حول العالم، مع تركيز واضح على منطقة الشرق الأوسط. في هذا الأسبوع، كما ورد، كشف تقرير جديد صادر عن سنودن أن أمريكا سجّلت كل المكالمات الهاتفيّة (وعددها بالمليارات) في بلد معيّن، وتستطيع أن تحتفظ بتلك المكالمات لمدّة شهر كامل، كذلك تستطيع أن ترجع إلى تلك التسجيلات لتنتقي منها ما تشاء. ليس ذلك فقط، إن خروقات الإنترنت حول العالم صغيرة جداً مقارنة بما تفعله أمريكا (مع حليفتها إسرائيل) من أجل نشر الفيروسات وغيرها من أمراض الإنترنت الفتّاكة. تستطيع الوسائل الاستخباراتيّة الأمريكيّة أن تشغّل الكاميرا داخل جهاز الكومبيوتر من دون إشعار المشاهد أمام الشاشة بذلك. كذلك فإن بعض الوثائق في حوزة سنودن تضمّن أنساقاً من الحروب النفسيّة. تقوم بعض الأجهزة بانتقاء ما تشاء من صور (فايسبوك) وتضع صوراً أخرى، وتعمل بما أسمته في وثيقة على (تدمير الشخصيّات). تنشر الشائعات على الإنترنت لخدمة قضيّتها الدعائيّة، وتروّج لأكاذيب عن أعداء لها. لا، لم يصل جهاز الأمن في ألمانيا الشرقيّة إلى هذه الدرجة من خرق حقوق وحريّات وخصوصيّات المواطنين والمواطنات. وعندما انفجرت فضيحة سنودن هنا، لم يكترث الشعب الأمريكي بها. ولم تقم قائمة عضو مجلس الشيوخ، دايان فاينشتاين، من ولاية كاليفورنيا – وهي رئيسة لجنة الاستخبارات وبهذه الصفة تساهلت مع أجهزة الاستخبارات ودعتها إلى فعل ما تشاء دون رقابة تذكر، إلا بعد أن علمت أن ال(سي. آي. إي) قامت بالتجسّس على موظّفي لجنتها وبالتالي على عملها هي. وهذه مخالفة للقانون الأمريكي (الذي لا يسمح بالتجسّس الداخلي من قبل الوكالة) وللدستور (الذي يشدّد على فصل السلطات وعلى الموازنة بينها – وهذا صلب الفارق بين النظام الجمهوري الأمريكي وبين النظم البرلمانيّة المعتمدة في أوربا). لم تتعاون الوكالة مع تحقيق طويل عن أعمال تعذيب قامت به الوكالة في عهد بوش حول العالم، وحاولت أن تعيق عمل اللجنة (كلّف عمل اللجنة نحو 50 مليون دولار لكن نتائجه لم تُنشر، ومن الأكيد أن أعمال التعذيب التي قامت بها الوكالة فاقت كل التوقّعات والتخمينات). أوباما يتستّر على جرائم حرب عهد بوش للتستّر على فضائح قد تطوله هو بالتهم نفسها. ولكي يحاول تخفيف النقمة، لم يعد أوباما بوقف تجميع ال(ميتا داتا) للشعب الأمريكي، لكنه عرض أن تخزنها له شركة خاصة وتستطيع الحكومة الأمريكيّة ان تنقّب فيها متى شاءت. هذا هو الإصلاح الديمقراطي الشفاف الذي وعد به أوباما في 2008.
لم يتورّع الرئيس الأمريكي عن التجسّس على الهاتف الخاص لأنجيلا ميركل، الحليفة القويّة للامبراطوريّة الأمريكية. لكن هذا هو الصلف الإمبريالي. ليس هناك من أصدقاء خلّص أو من مبادئ عليا. هناك خمس دول (أمريكا وأستراليا ونيوزلندة وكندا وبريطانيا) تسمّي نفسها ب(العيون الخمس)، وهي مجموعة تحالف استخباراتيّة تتشارك في التجسّس وفي تبادل المعلومات، وتخفي عن العالم ما تعلم. ويقول الخبراء هنا إن تلك الدول هي وحدها الحصينة أمام التجسّس الأمريكي. قرأت ذلك وارتبت في آراء الخبراء: من المحتّم أن أمريكا تتجسّس حتى على العيون الأربع. ليس هناك من سيادة لأي دولة ولا حصانة أمام الغزو العسكري والاستخباراتي الأمريكي.
إن ما كشفه إدوارد سنودن عن التجسس الأمريكي العالمي سيغيّر في طبيعة عمل الإمبراطورية. كما ألحق بها ضرراً فظيعاً. إن إصرار دول العالم على تخلّي أمريكا (غير الطوعي) عن السيطرة الإدارية جاء بناء على الاحتجاج على الاستغلال الاستخباراتي. وهذا الأسبوع جرى الإعلان الرسمي عن إنهاء احتكار أمريكا لإدارة الإنترنت. كل هذا من نتائج عمل سنودن الشجاع. هو بحق رجل القرن. ساهم في عمليّة البدء بالتحرر من سطوة الاستخبارات الأمريكيّة على العالم برمّته.
في العالم العربي، تقوم أمريكا برصد المليارات للتجسّس على كل شؤون تلك الدول. ووكالة الأمن القومي لا تنظر بعين الاحترام إلى صف قادة الدول العربيّة الذين ينحنون أمام كل موظّف أمريكي بسيط يمرّ في المنطقة العربيّة. الملك السعودي لا يلتقي إلا برؤساء الدول، لكنه يتيح الاستثناء لكل موظّف أمريكي يمرّ في المملكة.
هناك من تساءل عن سبب عدم نشر وثائق إدوارد سنودن عن العالم العربي.
هذا الأمر أثار استغرابي. سألت الرفيق غلين غرينوولد هذا الأسبوع عن السبب. أجابني إن هناك وثائق بحوزته (من ملفات سنودن) عن عمليات تجسّس مشتركة بين الولايات المتحدة وبين حكومات عربيّة. حان وقت نشرها، قال لي، قريباً جدّاً. تلك الوثائق بالعربيّة وهناك مطبوعة عربيّة تجرؤ على نشرها.
عن (الأخبار)