برسم السيد وزير التربية التعليم الفني والمهني.. منغصات وخلل.. هل من حلول؟!
من الأخطاء التي توارثها المجتمع منذ أن أحدثت المدارس الثانوية المهنية تلك النظرة السلبية التي لا تزال حتى الآن تلاحق عملية التعليم المهني، والدليل على صحّة ما نقول هو الإقبال الضعيف وعزوف معظم الناجحين في شهادة التعليم الأساسي بدرجات عالية عن الانتساب للتعليم المهني طوعاً أو عن رغبة، بل نجد أن معظم الطلاب الناجحين في الصف التاسع الملتحقين بالتعليم المهني هم ممّن حصلوا على درجات متدنية في امتحان شهادة التعليم الأساسي، لا تخوّلهم التسجيل في الثانويات العامة، وهنا الطامّة الكبرى، إذ أصبح طالب التعليم المهني يشعر بالإحباط لأنه سيدرس في مجال وجد نفسه مجبراً عليه دون رغبته وطموحه.
إن من ينظر بعين حسّاسة وخبيرة إلى الدول الصناعية سيجد دون عناء أن معظم هذه الدول الصناعية المتطورة اعتمدت في تطوير صناعاتها على خريجي الثانويات والمعاهد المهنية والفنية بكل اختصاصاتها وفروعها (الصناعية، النسوية، التجارية، الزراعية، ومؤخراً الحاسوب)، فمن خلال الاستفادة من خبرات الخريجين تطورت الصناعة والزراعة والتجارة وغيرها.
ولكن في سورية وعلى الرغم من التوسع في إحداث الثانويات المهنية ورفدها بمستلزمات العملية التعليمية من ورش وآلات حديثة ومعدات ورفدها بحرف جديدة ووضع الخطط والبرامج لمتابعة عملية تطويرها، إلاّ أننا لا نزال نلاحظ حتى يومنا هذا أن التعليم الفني والمهني لا يزال قاصراً يحبو بخطا وئيدة نتيجة عدة ظروف وأسباب كانت عائقاً أمام تطويره.. فتعالوا معنا للوقوف على الأسباب الحقيقية في ذلك من خلال من التقينا بهم من أصحاب العلاقة بالتعليم المهني:
خلل في طريقة القبول
منذ البداية كان الخطأ في طريقة القبول في المدارس المهنية – كما يوضح لنا أحد المديرين في إحدى المدارس المهنية بطرطوس – فمن النادر أن نجد طالباً قد حصل على علامات مرتفعة في شهادة التعليم الأساسي واتجه للتسجيل في المدارس المهنية رغبة منه، بل كان الواقع بعكس ذلك، والملاحظ أن المعنيين حتى الآن لا يريدون أن يتلمّسوا الخطأ في هذه الطريقة، فالطالب في المدارس المهنية يحتاج إلى ذكاء ودقة ملاحظة وسرعة في البديهة، وهذا ما نفتقده في طلابنا للأسف، لأن القادم إلينا هو فقط ممن لم تسمح له علامات نجاحه بالاستمرار في التعليم العام (علمي، أدبي).
من المعيب أن نقول بأن لدينا مدارس مهنية وفنية – يتحدث أحد المدرسين – سترفع من مستوى واقع البلاد الصناعي والمهني، ونحن نستقطب فيها أسوأ طالب من الناحية العلمية ومستوى الذكاء، فلماذا لا نستقطب الطلاب الأذكياء وأصحاب الرغبة، ولماذا لم يكن هناك حوافز ومكافآت ومستقبل مضمون يشد الطالب الذكي للالتحاق بهذه الثانويات دون خوف على مصيره؟ الطالب الذكي الآن في عصر المعلوماتية والتكنولوجيا المعقدة هو وحده القادر على مواكبة المنهاج الحديث!
تدخّل الأهل في اختيار المهنة
إن من أكبر الكبائر في طريقة اختيار المهنة هو تدخّل الأهل لدى المعنيين في المدارس المهنية بطريقة اختيار المهنة أو الحرفة للطالب، فالوالد يريد من ابنه أن يدرس الكهرباء (على سبيل المثال)، لأن هذه الحرفة لن تموت، بل على العكس يزداد استخدام الآلات والمعدات الكهربائية يوماً بعد يوم، وبالتالي يبقى المجال أمامه مفتوحاً كي يكسب المال ويحسن ظروفه وأحواله. طبعاً يحدث هذا دون الرجوع إلى رغبة الطالب الحقيقية، وغالباً ما نجد المعنيين في الثانويات المهنية تحت ضغط رغبة الأهل يوافقون على ذلك، مع أن الطالب يخشى ويجهل أبسط قواعد التعامل مع الكهرباء ويفضّل الميكانيك على ذلك مثلاً! هنا المسؤولية مشتركة في الفشل يتحملها الأهل من جهة والجهاز التعليمي من جهة أخرى!
انسداد الأفق
من الملاحظ أن نسبة كبيرة من طلاب التعليم المهني ينقطعون عن متابعة تعليمهم المهني بعد قضاء سنتين في الثانويات المهنية، ويتقدمون لامتحان الشهادة الثانوية العامة الفرع الأدبي أو العلمي بصفة طلاب أحرار لعدم قناعتهم أن التعليم المهني سيؤمن لهم المستقبل الذي يطمحون إليه لقلّة الفرص، إضافة إلى أن فرص حاملي الشهادة الثانوية العامة الأدبي أو العلمي هي أكثر بكثير في حصوله على مقعد دراسي في إحدى الجامعات، لأن من يدخل الهندسة هم فقط بنسبة 3% ممن يتفوقون في المدارس المهنية، وبذلك تكون الدولة قد خسرت المبالغ الطائلة التي أنفقتها على تطوير التعليم المهني وتأهيل هؤلاء الطلبة وتدريبهم، وكذلك يكون المجتمع قد خسر مجموعة من الكوادر الشابّة التي تم تأهيلها على مدى عامين دراسيين، فهل من المعقول الاستمرار بالذهنية والعقلية نفسهما حتى يومنا هذا؟!
المناهج التعليمية
كان من ضمن من التقينا بهم عدد من الطلاب في أكثر من مدرسة معنية في الدريكيش وصافيتا والشيخ بدر وكانت لهم ملاحظاتهم القيّمة على المنهاج، فمن غير المنطقي مثلاً وجود كتاب التربية الدينية بهذا الحجم وكأننا في مدرسة شرعية! ما هو المبرر لإرهاقنا بهذا الحجم وهذه المعلومات التي لا تقدّم ولا تؤخر في صقل الحرفة والمهنة واكتساب المهارة في ذلك – يعلّق أحد طلاب الثالث ثانوي- فهل من الجائز أن نأخذ في كل حصّة درسيّة ثلاثة دروس كي يتمكن المعلم من إنهاء الكتاب والمواضيع خلال العام الدراسي؟! العام الماضي كان الكتاب أقل سماكة 130 صفحة، وكان هناك حصتان دراسيتان أما هذا العام فقد أصبح 320 صفحة وحصة واحدة!
نقص في المستلزمات
من خلال جولتنا على الثانويات المهنية ومن خلال الاتصال مع بعض الأصدقاء المعلمين في الثانويات الصناعية، رصدنا عدداً من النواقص التي تؤثر سلباً على سير العملية التعليمية، ومنها نقص في قاعات التدريب والتجهيزات المخبرية، إضافة إلى نقص في عدد من المراجع والكتب وكذلك الحال هناك نقص في العدّة المخصصة لكل طالب، فمن غير المنطقي مثلاً أن تشترك مجموعة من الطلاب بجهاز (راسم إشارة) أو (آفو متر) أو غيرها.
ولا نكون قد جافينا الحقيقة إذا أضفنا النقص في عدد المهندسين القادرين على مواكبة المنهاج الجديد، فهل يعقل وجود مهندس صناعات نسيجية مثلاً في ثانوية لا توجد فيها حرفة نسيج؟! أليس من المعيب والمخجل أن يقوم هذا المهندس بعد دورة لا تزيد عن الشهر بإعطاء مادة الحاسوب مثلاً؟! من المعروف أن المهندس يقوم بشرح الجانب النظري من الدرس، في حين يكمل الجانب العملي معلّم الحرفة، ولكن مع وجود نقص في عدد المهندسين يكون معلم الحرفة مجبرأً على القيام بكلا الدورين!
في مدرسة الدريكيش مثلاً هناك أجهزة لحام وتشكيل للصف الحادي عشر لم تكتمل حتى الآن، وبالتالي الطالب يعطى القسم النظري فقط.. وكما نعلم فالعملي هو الأهم وهو الأساس، ودعنا -يضيف المعلم – نعتبر أن كل جزء له 50%، فأنا أحرم الطالب من 50% الناتجة عن التدريب العملي.
قمامة.. وصرف صحي وعدم تعاون
في الثانوية الصناعية بالدريكيش من الجهة الشمالية ما يدعو للقرف والاستغراب والدهشة، فهل يعقل يا مديرية التربية ويا بلدية الدريكيش ويا مديرية الصرف الصحي بطرطوس أن يكون هناك بحيرة ونهر من الماء الآسن والقذر الناتج عن الصرف الصحي الذي يمر من تحت أحد المستودعات مسبباً الروائح الكريهة والضارة بالبيئة وبصحة الجوار دون أي إجراء منكم، علماً أن إدارة المدرسة قد قدمت لكم العديد من الكتب والتقارير تعلمكم فيها بهذا الواقع وبضرورة التدخل السريع للمعالجة ولقمع هذه الحالة المرضيّة وإنهائها؟!
المضحك المبكي
في الثانوية الصناعية بالدريكيش العام الماضي طلبوا مخبر أسس كهرباء للصف العاشر، ولكن الذي حدث هو أنهم أرسلوا من التربية مخبراً لا علاقة له بقسم الكهرباء من قريب أو بعيد وما زالت الأجهزة في المدرسة بانتظار التلف والاهتراء!
الكادر التعليمي
المنهاج الجديد متطوّر نوعاً ما ولكن يحتاج إلى الكادر القادر على إيصال الفكرة والمعلومة للطلاب، خاصة أننا أمام حالات ذكاء للطلاب دون الوسط والكادر التعليمي يحتاج أيضاً لدورات تأهيل وتدريب على هذه المناهج الحديثة.الدورات التي يقيمونها – على قلّتها – فاشلة كما يؤكد أحد المعلمين، لأننا بحاجة إلى دورات لكل المعلمين لا لمعلم واحد. عدم الجديّة في مثل هذه الدورات وعدم القدرة على افتتاح دورات مأجورة يدعونا للسؤال عن المانع من إرسال شخص خبير بالأجهزة لتعليم البقية عليها في مقر الثانوية الصناعية.
مقترحات وآراء
من خلال الاطلاع على سير العملية التعليمية والهموم والمشاكل التي يعانيها التعليم المهني، قدّم لنا من التقينا بهم سواء من المعلمين أو الطلاب جملة من الاقتراحات التي من شأنها أن تؤدي إلى الارتقاء بواقع التعليم المهني نذكر منها:
– أن تلتزم الفعاليات الصناعية في القطاع الخاص والعام بتدريب طلاب التعليم المهني حسب اختصاصاتهم في منشآتها الصناعية خلال العطلة الصيفية، فيوزع الطلاب على هذه المنشآت للاطلاع على الآلات الحديثة ويتعامل الطالب مع الآلة عن قرب، وبذلك تخفف الدولة عن كاهلها عبء التمويل والتدريب.
– تخصيص راتب شهري مجز للطالب خلال فترة دراسته يساعده على شراء المعدات والأدوات اللازمة لإجراء التجارب المخبرية والوظائف البيتية، ويكون هذا الراتب حافزاً له على الاستمرار بدراسته، وتحويل الثانويات الصناعية إلى ورش إنتاج حقيقية يحصل الطالب والمعلم على جزء من أرباح المبيعات.
– إصدار القوانين الملزمة بتوظيف الخريجين من التعليم المهني في مصانع القطاع العام والخاص والمشترك.
– زيادة عدد المقبولين من حملة الشهادة المهنية في الجامعات والكليات.
أخيراً.. إذا أردنا للتعليم المهني أن يأخذ دوره في المساهمة في تطوير صناعتنا، علينا أن نؤمّن للخريجين فرص العمل بعد أن يتم تزويدهم بالمعارف والمهارات وتهيئتهم نفسياً ما يجعلهم قادرين على الابتكار والإبداع، ورفد ميادين العمل والإنتاج الصناعي بهؤلاء الخريجين.. فهل من آذان تسمع ونيّة صادقة لتحقيق هذا يا وزارة التربية؟! سؤال برسم السيد الوزير!