ماركس والديمقراطية

في الوقت الذي كانت الحركة من أجل الديمقراطية في القرن التاسع عشر تضع في مقدمة أهدافها وبرنامجها النضال من أجل أشكال سياسية متقدمة على الحكم المتسلط السائد في أوربا، وبالأخص في ألمانيا، كان ماركس يفعل الشيء ذاته، ولكن في سياق برنامج مختلف تماماً. فالنضال من أجل دمقرطة الدولة، أي إيجاد أشكال حكومة ديمقراطية بالمعنى السياسي، كان أمراً مهماً بالنسبة لماركس. فهو، على سبيل المثال، كان يطالب بالحقوق الديمقراطية، وينادي بتقليص سلطة السلطة التنفيذية في ألمانيا إلى أدنى حد، والحد من نفوذ البيروقراطية، وباستقلال القضاء عن السلطة التنفيذية. ولكن تحقيق كل تلك الأمور لم يكن يُشكّل، بالنسبة له نهاية المطاف، بل هو جزء لا يتجزأ من مجمل القضية التي يجب أن تجمع، وفق مفهومه، بين النضال من أجل دمقرطة الشكل السياسي للحكم والنضال من أجل تحقيق محتوى اجتماعي جديد للحكم، أي الاشتراكية. وكان يؤكد باستمرار أن (الإنسان لم يوجد من أجل القانون، بل القانون هو الذي يوجد من أجل الإنسان والديمقراطية هي الوجود الإنساني).

 توصل ماركس إلى هذا الفهم ليس نتيجة لدراسة فلسفية، بل من خلال دراسته وتحليله لأحداث ثورة 1848 وتصرفات البرجوازية، عندما حاول البعض إيجاد تناقض بين المطالب الديمقراطية والأهداف الاشتراكية، أو الفصل بينهما. ومع ذلك فإن ماركس وانجلز أكدا باستمرار ضرورة قيام البروليتاريا بالنضال دون هوادة) من أجل الحقوق والحريات الديمقراطية، فتلك الحقوق والحريات ضرورية لتحقيق الديمقراطية البروليتارية وسلطة العمال. من المهم أن ندرك في هذا السياق أن (الديمقراطية) لم تكن تعني في تلك الفترة مجرد أفكار أو قيم أو إجراءات سياسية، بل كانت في الدرجة الأولى حركة أو نزعة سياسية ترمي إلى وضع السلطة في يد الشعب، بشكل أو بآخر. كانت (الديمقراطية البحتة) بلغة الاشتراكيين في ذلك الوقت، حسب ما جاء في المراجع التاريخية، تعني ديمقراطية بسيطة ذات طابع سياسي صرف قد توفر للبرجوازية ما تريد ولكن لا تُلبي التطلعات الاجتماعية للجماهير، ولا بد لها كي تلبي تطلعات الجماهير من أن تكون حركة اجتماعية أيضاً.

نرى إنجلز في هذا السياق يتحدث في نهاية 1845 على سبيل المثال، عن الجانب الاجتماعي للثورة الفرنسية، وليس السياسي فقط، فيقول: (كانت الثورة الفرنسية منذ البداية حتى النهاية حركة اجتماعية، وبعد ذلك ديمقراطية سياسية بحتة تحولت إلى وهم مستحيل. الديمقراطية هي الشيوعية اليوم. ويمكن لأي ديمقراطية أخرى أن توجد أيضاً، ولكن فقط في عقول المتنبئين النظريين الذي لا يشغلون رؤوسهم بما يحدث فعلاً، وبالنسبة لأولئك الذين لا يعتقدون بأن المبادئ تنشأ بفعل الرجال والظروف، بل بنفسها. إن الديمقراطية أصحبت مبدأ بروليتاريا مبدأ الجماهير.. فبوسع الجماهير الديمقراطية أن تُحسب بثقة عند حساب القوى الشيوعية. وعندما تجتمع الأحزاب البروليتارية لمختلف الأمم معاً ستكون محقة جداً في أن تسجل كلمة ديمقراطية).

العدد 1140 - 22/01/2025