ريح… وزنّار
إذا هبّت الريح شدّ زنّارك. والريح غالباً ما تهبّ، ما يجعلك دائم التأهّب. إذا هدأت الريح فلا تطمئنّ، فهي لا تهدأ إلاّ لتغافلك وتهبّ. عليكَ أن تنسى إذاً أيام الاسترخاء والتكاسل، أنت في زمن الهبوب، زمن الانشغال الدائم بما يجب، وبما تحذّرك منه الوصايا القديمة، تلك المنسوخة في كتب ضاعت، ولم يبق منها سوى بقايا في الذاكرة.
الريح فارسة الفلوات كانت، أيام كان لكلّ كلمة معناها الواضح، دون مواربة أو انزياح، الآن أصبحت الريح عدوّاً مخادعاً لا يؤتمن جانبه. لم تعد المروءة بأن تمدّ جسمكَ جسراً، فالرفاق عبروا منذ زمان بعيد، عبروا وتركوك، حسن أنهم لم يعبروا فوق جسدك، وحسن أيضاً أن زمن العبور مضى.
وإذ لا يليق بفارس أن تمتطيه الريح، ولا أن يمتطيه شيء، فهو الفاعل دون انفعال. كن إذاً ذاك الفارس، وصدّ بجسدك قوائم أحصنة بريّة، أحصنة لا تحمل نبل سلالتها، ولا صهيل أجدادها الأقدمين. الزمن يتغيّر باستمرار، والريح لا تستأذن الفرسان قبيل هبوبها. من خصائل الفرسان الحذر، فلتحذر الحوافرَ قبل سماع الصهيل، والصهيل كاذب في انسيابه المتكرر، إذ سرعان ما يتحوّل عواءً.
السياج زنّار الحقل، والجفن زنّار العين. فعينك على حقلك، شدّ زنارها واحترس. لا الثعالب ترحم حقلاً دون سياج، ولا الرّمد يرحم عيناً دون جفن، وكلّ الغزاة من حمولة ريح صفراء، كنست حثالة هذه الأرض، وأتت بها إليك. أنت المموّه ببدلة لم تغسلها منذ شهور، فوقها تقدّس غبار أليف حين امتزج بعرق معطّر، وببعض دماء.
وأنتِ أيتها الأرض الممدودة بين الماء والماء، كيف تمزّق زنّارك الأبدي؟
جدّتي قالت إن لكل شيء زنّار يعصمه من السقوط، فأين صار زنّاركِ يا أرض؟ نعرف أنك لن تسقطي، ونعرف أن الفرسان لفّوا خصرك بأجسادهم، فالويل لمن عبر، والويل لمن يعبر. زنّار بشري لا تقطعه قوّة ريح، ولا يفلته صراخ كائنات أدمنت الصراخ الأجوف، كما أدمنت النداء اللعين. جدّتي كلامها قانون، وإشارتها جواز سفر، فهي تعرف الريح جيداً، وتتقن المضيّ بزنّار مشدود.
الليل يلوك أحلام الصغار ويرميها عند بزوغ اليقظة، أما الكبار فلا يعترفون بليل ينتظر حلماً يتلهّى به، للكبار طقوسهم، فهم دائماً متيقّظون، والكبير يشدّ زنّاره ويمضي، سواء عنده أهبّت الريح أم لم تهبّ، وكأنه قطعة منها. لا الليل عنده للنوم، ولا النهار للعمل، في قبضته مفاتيح الليل والنهار، يمرّ على السياج فتفرّ الثعالب قبل وصوله، وحين تفاجئه الريح يمتطيها كفارس بارع، ويدور بها أنّى يشاء.
الكبار تربية الجدّات. فما زال الزمن يتناسل فيهم حكاية في إثر حكاية، وحكمة تليها حكمة، لا يخرجون من الماضي، ولا يستسلمون لما هو آتٍ. صدورهم مملوءة بالنبض، وقلوبهم عامرة بالضوء، تعلّموا في المدارس معنى الهوامش ووظائفها، كما فهموا كيف يحفظون القصائد عن ظهر قلب. أولئك من تنحني لهم الأشجار، وتنصب لأمجادهم أقواس النصر، يعبق الغار من خطواتهم، وتستقرّ على أكتافهم النجوم.
حبستَ قلبكَ أيها النائي بمفرده، وصرختَ في وجه الموت أن مُتْ، فجاءت إليك البلاد بكلّ زينتها. زنّارها من ياسمين، وتاجها من الجوري. هي تليق بك أيها الكبير، فامتطِ الريح البيضاء على هيئة فرس جموح، ونادِ جدّتك أن تحضر عرسك، فتزهر المقابر صبّاراً بلون الشروق.