اقتصاد السوق الاجتماعي يُطل مجدداً

ترجّح هيئة التخطيط والتعاون الدولي، اقتصاد السوق الاجتماعي، على غيره من الاقتصادات الأخرى، ليكون نهجاً اقتصادياً عتيداً لسورية، مع قناعة راسخة بأن التسميات ليست مهمة على الإطلاق. وتميل الهيئة في العموم إلى تجربة دول النمور الأسيوية، وتتجاهل في ورقة بعنوان (سورية نحو الانتعاش المبكر والتنمية)، أعدها الدكتور همام الجزائري رئيس الهيئة، أن الدستور السوري حسم النهج الاقتصادي للبلاد، مستندة بذلك إلى عدم تحديد الدستور النهج واضحاً، واكتفى بوضع ملامح عامة، ما يتطلب رسم تفصيلات لهذا النهج.

وتخلص الورقة، في باب هوية الاقتصاد السوري ومكوناته ونقاط ارتكازه التنموية خلال العشر سنوات القادمة، إلى أن أية مقاربة  تتعلق بهوية الاقتصاد السوري، يجب أن ترتكز على تعزيز الاقتصاد التنموي الإنتاجي الذي يتيح إنتاج وإعادة إنتاج العلاقات بأشكالها المختلفة الاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية، والثقافية، والمعرفية، التي تشكل البنية والجوهر الحقيقي والفعلي لمرحلة التعافي المبكر وإعادة البناء. وبذلك لا يأخذ القطاع الزراعي والصناعي دور قاطرة النمو الاقتصادي مظهراً، وإنما المحرك الرئيس لإنتاج علاقات اجتماعية وثقافية جديدة يكون مرجعها العمل وقيمه، وليس الانتماء العشائري أو العائلي أو الديني، الذي كان عاملاً معززاً في تجاذبات الأزمة التي تمر بها سورية.

تستعرض الورقة أساليب مختلف الدول في تعاطيها مع النهج الاقتصادي، والتطورات التي لحقت بهذا الفكر، سواء لجهة إعطاء الأولية للدولة على حساب السوق، أو العكس، لتصل إلى تجربة دول شرق وجنوب شرق آسيا التي وصفتها الورقة بأنها فريدة من نوعها، لأنها أحدثت تغييراً جوهرياً في النظرة الاقتصادية والاجتماعية لثنائية الدولة والسوق، وبينت هذه التجربة  وفقاً للورقة  أن النجاح التنموي لا ينتج عن تبني أحد جانبي الثنائية التقليدية، الدولة أو السوق. بل إن النجاح يكمن في الخروج من هذه الثنائية، وتبنّي مقاربة تراعي خصوصيتها الوطنية التنموية والاجتماعية، وحددت هذه المقاربة ب (مقاربة الدولة التنموية) التي تقوم على قدرة الدولة على تقديم الدعم المالي أو الصناعي أو الإنتاجي أو اللوجستي أو كل ذلك للشركات و الأنشطة المستهدفة، ما دامت تثبت هذه الشركات تلبيتها لمتطلبات التنمية من تشغيل وتصدير وارتقاء تكنولوجي، وتقوم كذلك على قدرة الدولة على سحب هذا الدعم لدى فشل الشركة في تحقيق الأهداف الناظمة لعملها.

حافظت الدولة على قطاع عام فاعل واستراتيجي ضمن تحقيق البنية الارتكازية التنموية للقطاع الخاص من خلال تصنيع (أو المشاركة في تصنيع) المواد الأساسية للإنتاج، والتدريب والتأهيل ودعم برامج  البحث والتطوير، فكان ذلك دوراً أساسياً ومكملاً ومحفزاً للقطاع الخاص وليس منافساً ومعيقاً. وخلصت الورقة إلى أن التجربة في شرق وجنوب شرق آسيا أظهرت أن السوق وحده أيضاً يفشل، كما الدولة وحدها، في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويكمن الجواب على إشكالية التنمية في تحقيق التكامل بين الاثنين في إطار مؤسسي ملائم لتعزيز الشراكة في التنمية. وترى الورقة أن المرحلة الراهنة من العولمة دخلت في مرحلة يمكن اعتبارها انتقالية، نظراً لتراجع المشروعية التاريخية لليبرالية الاقتصادية والتجارية التي قامت عليها مقاربة تاتشر  ريغان من جهة، وتقدُّم المشروعية المعاصرة للمقاربة الآسيوية والأسواق الجديدة الناشئة، ومنها البرازيل والهند والصين من جهة أخرى، التي أصبحت مصدر إلهام لتجارب جديدة ومحاولات تنموية يمكن أن تقوم عليها الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية لدول نامية صاعدة وواعدة.

أمام هذه التطورات والظروف يأتي تبنّي سورية لاقتصاد السوق الاجتماعي رداً منطقياً ومجتمعياً على اختلال الثنائية الناظمة للاقتصاد كونها الدولة أو السوق. فلايمكن للدولة وحدها، في إطار التخطيط والإدارة المركزية للاقتصاد، أن تلبي متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما يتلاءم مع النمو السكاني المتزايد، ولايمكن للسوق وحده أن يحقق متطلبات الارتقاء الاجتماعي والتوازن المجتمعي. إلا أنه لا يصح اختزال اقتصاد السوق الاجتماعي بمظلة كبيرة تبرر تحرير الأسعار وإطلاق عنان المنافسة الحادة غير العادلة دون تحرير مؤسسي مكمل يقوم على مبادئ الحرية الاقتصادية والمبادرة الفردية، ويؤسس لشراكة فعالة واستراتيجية بين القطاعات: العام والخاص والأهلي والتنموي والتطوعي. يمكن لاقتصاد السوق الاجتماعي أن يكون نظاماً إنمائياً واجتماعياً واعداً، حسب الورقة، يلبي طموح الناس والوطن، إذا قام على تفعيل النمو، والارتقاء بالتخصص الإنتاجي وبالإنتاجية، وتطوير الموارد البشرية العلمية والمهنية، وعلى ضبط النزعات الاحتكارية والريعية في نظام السوق، وتبني المنافسة العادلة أساساً للارتقاء والتطور. ولايمكن أن يتحقق ذلك دونما صياغة تحالف اقتصادي جديد مع المنتج (المزارع والصناعي) بإعطاء أولية المزايا للمزارع والمصنع، بما يعزز قدرتهم التفاوضية مع التاجر، ويسهم في تحقيق التراكم الاستثماري في القطاعات التنموية ذات الأولية، وبما يلبي متطلبات التشغيل والتأهيل والتصدير، ويفعّل الترابطات الأمامية والخلفية، خاصة المرتبطة منها بالموارد الطبيعية والزراعية. كذلك يقوم هذا النظام على ضمان استمرارية تأمين الخدمات الأساسية، وخاصة منها الصحية  والتعليم والسكن الملائم وحاجات الشرب والبنية التحتية الأساسية، للفئات الاجتماعية الفقيرة والعاملة بأجر.

وتوضح الورقة أن مسألة الخوض في التسميات والتعاريف المتعلقة بهوية الاقتصاد غير ذات جدوى، أو هامشية بالمقارنة مع الجوانب التطبيقية والعملية الناشئة عنها، والتي تمكنت الدول من خلال تبنيها هذه الجوانب، وبما يتوافق مع خصوصيتها، من تحقيق حالة تنموية أو مرحلة حضارية متقدمة، بينما عانت أخرى من حالات فشل تنموي أو حضاري، نتيجة اعتمادها توليفة خاطئة لا تنسجم مع خصوصياتها، فليس مهماً أن نطلق تسمية اقتصاد سوق اجتماعي، أو اشتراكي، أو رأسمالي.

ربما تكون محاولة للتأسيس لنهج اقتصادي مغاير، وجديد، تستند  للرفض المختبىء أو المخبأ، لما هو سائد، وقائم على النظريات المطلقة، فالخصوصية السورية تحتاج إلى خصوصية مماثلة في نهجها الاقتصادي العتيد.

العدد 1140 - 22/01/2025