ما بين الحكومة والتجّار… صرنا في خبر كان!

في ظل الوضع المأسوي الراهن لجميع السوريين ومنذ أكثر من عامين على مختلف الصُعد أضحت الحياة أشبه بسيرك يتنافس فيه الجميع على إذلال المواطن وترويضه بجميع الطرق والوسائل المتاحة وغير المتاحة، للقبول بواقع فرضته الأزمة المستعصية من جهة، والسياسات الاقتصادية السابقة والحالية من جهة أخرى. وكأنه لم يعد أمام الجميع سوى هذا المواطن ليكون المموّل لكل عجز أو نقص في الخزينة العامة أو صناديق تجّار لم تعد تروي نهمهم كل الأموال التي كدّسوها من جوع المواطنين. وكأن هذا المواطن مصباح علاء الدين يُلبي كل ما يحتاجه أولئك من خلال راتب هو في حدوده القصوى لا يكفي لشراء الخبز- الذي دخل هو الآخر منطق البورصة- على مدى شهر كامل فكيف بكل تلك الأعباء المفروضة يوماً إثر آخر؟

صحيح أن الأزمة السياسية التي تتجرع مرارتها ودمويتها سورية والسوريين كانت ومازالت وبالاً قاتلاً للوطن والمواطن على الصعد كافة ، وأنها جرفت في طريقها كل سبل الحياة الطبيعية للجميع، بالقضاء على الصناعة والزراعة والتجارة وعلى معظم مقومات الدولة من بُنىً تحتية ومرافق وموارد، حتى تلاشت معها الإمكانات المادية للدولة والمواطن على حدّ سواء. وصحيح أن العبء في هذا قد طال الخزينة العامة للدولة والمواطن أيضاً، إذ أنفق الجميع مدّخراتهم وكل ما يملكون في ظل لهيب السوق الواقع تحت ضربات التجّار والعقوبات الدولية وعجز الدولة عن تأمين موارد للخزينة تموّل احتياجاتها واحتياجات مواطنيها، وهذا باعتقادي أمر طبيعي في ظل ظروف كالتي تشهدها سورية.

لكن من غير الطبيعي أن تتخلى الدولة بسهولة وسرعة عن القيام بمهامها الملحّة والأساسية في مثل هذه الظروف من مراقبة وضبط للأسعار ونهم التجّار، وكذلك عجزها في حصر تأمين الاحتياجات الأساسية والضرورية للشرائح الدنيا من المواطنين بمؤسساتها على عكس ما حصل في الثمانينيات من القرن الماضي أثناء الحصار الاقتصادي والعقوبات الدولية التي فُرضت على سورية حينذاك.

وقد انتهجت سورية يومئذ سياسة لا يمكننا نكران إيجابياتها، إذ كانت معيشة المواطن واحتياجاته الأساسية خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه أو تخطيه مهما كانت الأسباب والمبررات، فقد حُصر توزيع السلع الأساسية والضرورية بيد الدولة وتحت إشرافها بوساطة المؤسسات الاستهلاكية الموزعة على مساحة البلد، ولم يُسمح للتجّار حينذاك بالتلاعب بقوت الناس، لاسيما الفقراء وذوو الدخل المحدود.

صحيح أننا كنّا نُمضي معظم أيام الشهر على أبواب المؤسسات الاستهلاكية من أجل الحصول على مخصصاتنا الشهرية، لكننا في النهاية نحصل عليها بالسعر الحكومي المدعوم، ابتداءً من المحارم الورقية وانتهاءً بأسطوانة الغاز، التي كان توزيعها حتى وقت ليس بالبعيد محصوراً بمراكز تابعة للدولة، ثمّ تخلت الحكومة عن هذه المراكز لمصلحة معتمدين من القطاع الخاص، صاروا لاسيما حالياً يتحكمون برقاب العباد، ففرضوا السعر الذي يريدون، حتى وصل سعر أسطوانة الغاز إلى أكثر من ألفي ليرة، بينما كانت التسعيرة الحكومية لا تتجاوز الخمسمئة ليرة، بينما في الثمانينيات لم يتأثر المواطنون كثيراً بتلك العقوبات أو الحصار، لأننا كنّا في ظل رعاية الدولة التي نجحت في استيعاب الأزمة والحصار.

فإذا وصل سعر أسطوانة الغاز في ظل التسعيرة القديمة إلى أكثر من ألفي ليرة، فإلى أيّ حدّ سيصل سعرها الآن بعد رفع السعر الحكومي إلى ألف ليرة، هل سنشتريها بخمسة آلاف ليرة، أم أننا سنمتنع عن استعمال الغاز ونعود إلى زمن الكاز والحطب؟

وكيف لراتب لا يكاد يكفي لشراء الخبز أن يفي بالتزامات الغاز وفواتير الكهرباء الملتهبة ناهيك بأسعار باقي الاحتياجات الضرورية لبقائنا على قيد الكرامة والحياة؟

نعلم جيداً أن الأزمة الحالية مختلفة بكل أبعادها عن أزمة الثمانينيات بحكم القتال الداخلي الدائر على الساحة السورية منذ أكثر من عامين، ونعلم جيداً أن الوضع اليوم فرض واقعاً لم تفرضه أزمة الثمانينيات بحكم التدمير الهمجي والعشوائي للبنى التحتية من مرافق ومصانع وأراضٍ زراعية بكل ما تحتويه من محاصيل باتت في حكم المندثر اليوم، إضافة إلى أن المورد الهام والأساسي للدولة (القطاع النفطي) قد خرج عن نطاق السيطرة والعمل. ونعلم جيداً أن من حق الدولة تأمين موارد للخزينة بكل الطرق والوسائل المُتاحة، كما أن على المواطن في ظل هذه الظروف واجبات عليه تحمُّلها والقيام بها، من مثل الانتقال إلى نمط استهلاكي- معيشي يُراعي في حدوده الدنيا الواقع المفروض بحكم خروج قطاعات كثيرة من العمل، والتي كانت ترفد الخزينة بموارد تتيح للحكومة القيام بواجباتها، من مثل المحروقات التي تأثّرت بما حصل من تعطيل للمنشآت والحقول النفطية، وبالتالي ارتفاع كُلف هذه المشتقات والتي ستضع المواطن تحت واجب تحمّل رفع أسعارها، شريطة أن يذهب الفارق السعري الجديد إلى خزينة الدولة فعلاً لا إلى صناديق التجار وحيتان السوق والمتعاملين معهم من بعض موظفي الحكومة. إذ من الطبيعي أن ترفع الحكومة أسعار المحروقات والغاز المنزلي الذي ارتفع تلقائياً وبشكل غير نظامي إلى مستويات غير معقولة. لكن على الحكومة هنا وعندما تقرر رفع السعر أن تحمي الشرائح الفقيرة بحصر توزيع هذه السلع بها في صالاتها الاستهلاكية التي ما زالت تتغنى بدورها الريادي في حياة المواطن، (ولكن للأسف بدون وجه حق لأن دورها لا يختلف كثيراً عن دور تجّار السوق وممارساتهم)، وإما عبر طرق ووسائل تجعل وصولها إلى مستحقيها آمناً وحقيقياً، فيكون المواطن حينئذ داعماً للدولة في مواردها، وبذات الوقت محفوظ الكرامة والحقوق المادية والمعنوية. أما أن تستغل الحكومة الوضع، وأن المواطن حتى الآن يُقدم على شراء احتياجاته من السوق بأسعار يفرضها حيتانه، وأنه ما زال في العديد من المناطق مُلتزماً بدفع فواتير الكهرباء رغم تحليقها اللامنطقي، ورغم ذلك تدرس الحكومة الآن تسعيرة جديدة للكهرباء بحيث لا تشمل ذوي الدخل المحدود أو المستضعفين كما تزعم، وبالتالي هي الأحق بذلك، فهذا أمر غير مقبول إذا لم توجد طرائق عادلة لتوزيعها أو رفع سعرها، لأن مواطن الشرائح الدنيا والفقيرة قد تحمّل في هذين العامين ما يفوق طاقته بسبب تخلي الحكومة عن مسؤولياتها تجاهه، وتركها لتجّار الأزمات ومقتنصي الفرص وحيتان السوق الذين التهموا الأخضر واليابس من قوت الناس البسطاء الذين باتوا اليوم عراة حتى من كرامتهم التي نص عليها الدستور والتي على الدولة صونها وتعزيزها.

فهل تعي الحكومة الموّقرة خطورة قراراتها الحالية بالتخلي عن الدعم ولو تدريجياً، وما ستجرّه تلك القرارات من مخاطر على مدى صمود المواطن في وجه جميع التحديات التي تفرضها الأزمة التي ما زلنا نكتوي بنيرانها صباح مساء منذ أكثر من عامين؟

هل تتنبه الحكومة إلى ضرورة حماية حقوق المواطن وكرامته كي يبقى على عهده في صون كرامة الوطن والحفاظ على استقلاله؟

العدد 1140 - 22/01/2025