العلاقة الروسية ـــ المصرية بين عصرين

مرَّتْ العلاقات المصرية الروسية منذ أربعينيات القرن الماضي بحالات صعود وهبوط.. وكانت الزيارة الأولى لـ نيكيتا خروشوف إلى القاهرة عام 1964. وتصاعد الخط البياني الإيجابي للعلاقات بعد ثورة تموز 1953 بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، خاصة بعد زيارته التاريخية إلى موسكو، فقد توطدت أواصر الصداقة بين الدولتين وبين الرئيسين (خروشوف وناصر) والشعبين. وإن دلَّ هذا على شيء، فإنه يدلّ على استقلالية القرار الوطني ورفضاً للرشوة وإغراءات الولايات المتحدة وخبثها وهيمنتها والتبعية لها.

وكانت الزيارة الأولى للرئيس بوتين إلى مصر في عام 2005 أما الزيارة الثانية فتمَّت قبل أيام. وتحكَّمت في كل زيارة ظروف سياسية واقتصادية (إقليمية ودولية ومحلية) في كلا البلدين.

لقد خطت العلاقات خطوات متقدمة، ودخلت مصر في مرحلة انتقالية جديدة من التطور، وبدأت تؤسس القاعدة المادية. وكانت البداية بإزاحة النظام الملكي والعمل على إنجاز الإصلاح الزراعي والنهوض بالزراعة، والالتفات إلى تحسين حياة الفلاحين المصريين وتخليصهم من الاستغلال والعبودية والظلم. وتشييد السد العالي – هذا الصرح العظيم – الذي أنجز بمساعدة الاتحاد السوفيتي، فقد قدَّم قرضاً بملغ 400 مليون روبل،بعد أن رفضت مصر الشروط المجحفة التي تقدمت بها الشركات الرأسمالية الاحتكارية الأمريكية.. وكان بناء السد واستخدام الري وزيادة مساحة الأراضي المروية، وبناء مصانع الحديد والصلب والألمنيوم، عاملاً إنتاجياً هاماً للعمال والفلاحين والكادحين بسواعدهم وأدمغتهم.ويشهد التاريخ المصري بنضالات الطبقة العاملة وتضحياتها، وفي الدفاع عن مصالح العمال المطلبية وحرية التعبير والتنظيم النقابي والتظاهر والعدالة الاجتماعية.

وقد زرع بوتين بزيارته الثانية إلى القاهرة قبل أيام، بذرة جديدة في تربة الصداقة المروية بعرق الكادحين السوفييت والمصريين، وأعاد البوصلة إلى الاتجاه الصحيح. وبيَّنت الزيارة في الظروف الجديدة أن براعم الصداقة التاريخية بين الشعبين قد أزهرت ولن تذبل، وأعادت إلى ذاكرة الشعب المصري علاقات الصداقة التاريخية، والدعم الروسي في الماضي الذي يتجدد في المجالات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية.

وفي دار الأوبرا صفَّق الجمهور خمس مرات للرئيسين، أثناء عرض الفيلم الوثائقي القصير الذي يستعرض العلاقات بين البلدين. وظهرت صورتا خروشوف وعبد الناصر، أثناء زيارة ناصر إلى موسكو. وصورتهما أثناء عملية تحويل مجرى النهر تمهيداً لبناء السد العالي.

وخلال هذه العقود حدثت انحناءات وهبوط في الخط البياني أدت إلى أزمة أطلقَ عليها (الأزمة بين خروشوف وعبد الناصر)، فهي ليست أول أزمة تحدث بين دولتين، وإن ازدادت حدّتها في عهد الوحدة السورية – المصرية.. وتوترت أكثر في المؤتمر الـ 21 للحزب الشيوعي السوفييتي المنعقد في 27 كانون الثاني عام 1959.

لقد كانت زيارة رئيس روسيا الاتحادية خطوة متقدمة في ظروف معقدة وأزمات تعصف بالمنطقة، خاصة انتشار المجموعات المسلحة الإرهابية التي أصبحت تهدد أمن عشرات الدول والشعوب، وكيفية سُبل مواجهته. وبحث الوفدان أيضاً مسائل عديدة شملت الشؤون السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأكّدا تعزيز العلاقات الثنائية وبحث القضايا الإقليمية والدولية. وللزيارة أبعاد أخرى (سياسية وأمنية) أكثر أهمية، فهي تمثّل الرافعة الأولى للبعد الاستراتيجي بين البلدين، وتوسيع دائرة المناورة الدولية ورؤية ما يجري في الساحتين الأوربية والإقليمية من زوايا متعددة، فضلاً عن إعطاء التعاون الاستخباراتي أولوية لمواجهة الإرهابيين، وإنشاء روسيا محطة الطاقة النووية للأغراض السلمية، وتأمين القمح لمصر، فهي المصدّر الرئيسي له، وبذلك يكون البديل عن القمح الأمريكي.

وبحث الرئيسان الأوضاع في سورية وليبيا واليمن وملف التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية ، وملف الغاز والتعاون الاستثماري والعسكري، فقد (شهد عام 2014 اتفاقاً مبدئياً بين روسيا ومصر بشأن صفقة أسلحة بقيمة ثلاثة مليارات ونصف مليار دولار، لأنظمة صاروخية خاصة بالدفاع الجوي ومروحيات هجومية).

وكانت القمة بداية للتحالف الجديد (الروسي المصري)، وخطوة لتغيير موازين القوى في المنطقة من جهة، ويعدّ هزيمة لفكر الإخوان المسلمين والمجموعات المسلحة الإرهابية المحلية والدولية من جهة ثانية. ويشكل أيضاً عملية إرباك لمملكة الرمال، وسيضعف حتماً التحالف التركي القطري. ويغير في موازين القوى الإقليمية من خلال تشكيل جبهة تضم (روسيا الاتحادية ومصر وسورية وإيران) وتزداد قوة فيما إذا انضمّ العراق إليها..!

قال السيسي: (إن الحوار بين موسكو والقاهرة يتميز بالموضوعية والمنطق، وإن لدينا تفاهماً حول عدد من القضايا الإقليمية مثل جهود مكافحة الإرهاب). ويرى المحللون الاستراتيجيون أن التوجهات العامة للسياسة الخارجية لمصر تقوم على (تنويع البدائل، وتوسيع الخيارات).

حقاً.. إنها زيارة تاريخية وحلقة تواصل متجددة واستعادة للمشوار الطويل من العلاقات التي تعكّرت وتراجعت في فترتي حكم السادات ومبارك.

العدد 1140 - 22/01/2025