الدّين والسّياسة ودور التّربية الاجتماعيّة بينهما

سمعنا مؤخراً، صرخات عالية في الشّارع السّوري تُطالب بابتعاد رجال الدّين عن السّياسة، فالدّين والسّياسة لا يمتزجان مع بعضهما. إنّ هذا الجدل يتضمن عدّة قضايا مختلفة، ولكي نتمكن من التّمييز بينها علينا أوّلاً أن نحدد معنى كلمة (سياسة)، وثانياً أن نوضح العلاقة بين ما هو اجتماعي وما هو سياسيّ، ولماذا لا يُمكن إبقاؤهما منفصلين؟! وما هو الدّور الصّحيح للدين في السّياسة؟! وذلك من خلال طرح الأسباب الّتي تجعل بعض النّاس يعارضون اشتراك الدّين في السّياسة، وما الّذي يُحاولون المحافظة عليه؟! كما علينا توضيح على من يقع عاتق المسؤولية السّياسية الدّينية؟!

أوّلاً: علينا تحديد معنى كلمة (سياسة)، فهي تُشير إلى حياة المدينة ومسؤوليات المواطن، فهي تُعنى بمجمل حياتنا في المجتمع الإنساني. فالسّياسة هي فن العيش معاً ضمن جماعة، فالسياسة هي علم الحكم، إذ تُعنى بتطوير وتبنّي سياسات مُعينة بقصد جعلها قانوناً.

ثانياً: من الضّروري التّفكير في العلاقة بين لفظَيْ (الاجتماعي) و(السياسة)، لذلك علينا أن نُميّز بين مفهوم الخدمة الاجتماعيّة، والعمل الاجتماعي، فالخدمة الاجتماعيّة تهتم بإعانة المحتاجين، وبالفاعلية في الأعمال الخيرية، بالسّعي لخدمة الأفراد والعائلات، والقيام بأعمال الرّحمة ؛ أمَّا العمل الاجتماعي فيؤدي إلى إزالة أسباب العوز والحاجة، ودور الفعاليات السياسية والاقتصادية في السّعي إلى تغيير بُنية المجتمع حتى تؤدي إلى تحقيق العدالة.

وانطلاقاً من ذلك يُمكننا رسم الخطوط الكبرى للنشاط الاجتماعي- السّياسي الّذي يتجاوز الأشخاص، وينظر إلى بُنية المجتمع ككل، فهو يتجاوز مثلاً تحسين شروط العمل في المصنع، إلى تأمين المزيد من مشاركة العمال فيه، كما يتجاوز العناية بالفقراء، إلى تحسين النّظام الاقتصادي بطريقة تسهل فيها تحريرهم من العوز والفقر.

ومنه يتضح لنا أنّ الاهتمام الاجتماعي الصّحيح، سوف يتبنى الخدمة الاجتماعيّة والنّشاط الاجتماعي معاً، وسيكون الفصل بينهما أمراً مُصطنعاً إلى حدٍّ بعيد، فإنّ إطعام الجياع أمرٌ حسنٌ، ولكن الأفضل هو أن نتمكن من استئصال أسباب الجوع، وهكذا إن كُنّا نُحبّ أن نخدم مجتمعنا فنحن لا نستطيع ذلك دون عمل سياسي يضمن حلّ المشاكل الاجتماعيّة الّتي نُريد أن نعمل على التّخفيف منها.

ولكن أين الخطأ؟! وما الّذي يحدث؟! حتّى يُطالب النّاس في الشّارع من جميع الطّوائف والملل بفصل الدّين عن السّياسة.

المشكلة تكمن في تشديد رجال الدّين على النّاحية السياسية، إذ يكاد يطغى على ما يجب أن يكون محور اهتمامهم، وهو الاهتمام بتربية الفرد وزرع القيم والعادات السّلوكية الصّحيحة الّتي تُطالب بها جميع الأديان؛ إنَّ محبتنا للّه سبحانه وتعالى بكلّ كياننا هي أهم وأعظم وصية، ولكن  لن نتمكن من الوصول إلى علاقة صحيحة مع اللّه تعالى، دون أن نحبّ بعضنا ونخدم بعضنا بصدق وإخلاص.

ثالثاً: إنّ المساهمة السّياسية الّتي يقوم بها رجال الدّين المعاصرون غير بارعة، فهي تنقصها المهارة الضّرورية للمشاركة. كما أنّ الأفكار السّياسية لرجال الدّين في يومنا، لا تخرج عن أن تكون المبادئ المثالية السّياسية والأخلاقية للثقافة المحيطة بهم، فما يفعله رجال الدّين اليوم هو أنّهم يتبعون العالم ويقدمون غطاءً دينياً رقيقاً لأفكار مستعارة، فهم يشاكلون المجتمع عوضاً عن زرع الأخلاق الكريمة في نفوس أفراده، ومنه السّؤال الّذي ي طرح نفسه، ما هو دور رجال الدّين؟!!

الحقيقة، إنّ رجال الدّين كأفراد ينبغي أن يكون لهم نشاطهم السّياسي، بمعنى أنّهم كمواطنين أصحاب ضمائر حيّة، عليهم الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، والإطلاع على القضايا المعاصرة والمشاركة في النّقاش العام، بل والكتابة في  الصّحف، كما لابدَّ أن يكون لهم تأثيرهم على ممثليهم في المجلس النّيابي، وعليهم تشجيع بعض الأشخاص في المجتمع ليكرسوا أنفسهم للخدمة السّياسية الصّالحة في الحكومة، كما عليهم تشجيع الأشخاص الملتزمين بأخلاقيات اجتماعيّة صحيحة على تشكيل مجموعات، تضمُّ جميع الطّوائف، تدرس القضايا على مستوى أعمق واتخاذ الإجراءات المناسبة، كما ونؤكّد أنه يجب ألاَّ تقتصر هذه المجموعات، على طائفة معيّنة، أو ملّة واحدة، بل يجب أن تضمَّ الجميع، وتضع مصلحة الوطن وخدمته بإخلاص ضمن حدود الأخلاق الكريمة الّتي علّمتنا إيّاها الكتب السّماوية، ومنه مهمة رجال الدّين تتجلّى في تعليم الأفراد أهمية احترام القانون وضرورة تقدير المعلّمين وقادتهم. لبناء مجتمع سليم وصحيح ومنفتح على جميع التّجارب ويحترم آراء الجميع، لأنّ الوطن هو الوعاء الّذي يضم الجميع.

العدد 1140 - 22/01/2025