الدردري: تنمية شاملة – الشعار: تنمية غير متوازنة.. الحلقي: تنمية مجتمعية

ثلاث تجارب تنموية في عشر سنوات عجاف

أي تنمية نريد؟ سؤال، يتراود في ذهن كل المشتغلين في الاقتصاد، في محاولة لإيجاد نموذج تنموي يتناسب مع إمكاناتنا، ومواردنا، ويوازن بين بعدين متضادين، الاقتصادي والاجتماعي. وخلال السنوات القليلة الماضية خضعت سورية لثلاثة نماذج للتنمية، كان حاملها الموضوعي، موقف صانع القرار الاقتصادي، وتوجهاته الشخصية، بعيدا عن الاعتبارات الملحة المتمثلة بمدى حاجة الاقتصاد الوطني إلى هذا النوع من التنمية من عدمه.

قصة نماذج التنمية في سورية، في السنوات العشر العجاف الأخيرة، تتراوح بين ثلاثة أنواع أو بمعنى أدق ثلاث تسميات، فرئيس مجلس الوزراء وائل الحلقي يؤكد أن الحكومة تعمل على تحقيق (تنمية مجتمعية متوازنة ومستدامة). بينما كان النائب الاقتصادي السابق عبدالله الدردري يتحدث عن تنمية شاملة ومتوازنة، ليأتي بعده وزير الاقتصاد الأسبق محمد نضال الشعار معلناً عما أسماه (التنمية غير المتوازنة).

مشكلة الاقتصاد السوري، في هذا المنحى، هي تعدد وجهات النظر حول النموذج التنموي الذي يجب أن يتّبع، وفي عود إلى الوراء قليلاً، نجد أن سورية وقعت ضحية تعدد المدارس الاقتصادية التي يعتنقها القابضون على اقتصادها، وصنّع القرار الاقتصادي فيها. ففي مرحلة النائب الاقتصادي السابق عبدالله الدردري ( 2005 ـ 2011) كان التركيز على التنمية الشاملة، وعملت الحكومة آنذاك تحت هذا الشعار العريض، ووضعت خططها وبرامجها لتنفيذ تنمية شاملة، ولم يكتف المسؤولون يومذاك بذلك، بل قدموا كل المعطيات التي يمكن بها تحقيق هذه التنمية، ما يجعل سورية تتجاوز مشكلاتها الاقتصادية والتنموية، وتضع حداً لأبرز مشكلة تواجه الاقتصاد آنذاك أي البطالة، وتعالج المشكلات الأخرى حسب كل قطاع. ونتذكر أن الدردري صرح في تشرين الأول 2010  أثناء انعقاد الندوة الوطنية الأولى حول تطبيقات ذكاء الأعمال في سورية،  بأن الحكومة تخطط لأن تتمكن خلال السنوات الخمس المقبلة من التركيز على (التنمية البشرية بما يضمن نمواً اقتصادياً موائماً للفقراء ومناسباً للسوريين)، وقال: (بحلول عام 2015 سيكون الاقتصاد السوري الاقتصاد الأقوى في منطقة الشرق الأوسط). يومئذ، لم تك المشكلة في نوع التنمية بقدر الاهتمام بقوة الاقتصاد عقب خمس سنوات منتظرة وقادمة. كان الدردري  يمتلك مهارة اختلاق التسميات، وقدرة فائقة على إيجاد الشعارات البراقة التي تدغدغ أحلام الناس الفقراء وطموحاتهم، مستنداً إلى الكثير من المعطيات والأرقام التي تُصنّع في مطبخ فريقه الفني والاقتصادي، وتقاد وفقاً لتوجهات يريدها النائب الاقتصادي. التلاعب بجوهر التنمية التي كان يبحث عنها الفريق الاقتصادي، كان سمة غالبة، ولم يخرج مسؤول اقتصادي حكومي، ويعبر بصراحة وشفافية عن النموذج التنموي الذي تريد تحقيقه حكومة محمد ناجي عطري (2003 – 2011). إلا أن القضايا الشائكة تقاس بخواتيمها، وكانت حصيلة تلك الفترة مخيبة للآمال، إذ أُغلقت ألاف الورش الصناعية والحرفية، وتعرضت الزراعة والصناعة، بصفتهما جناحي التنمية،  إلى أشرس وأشد حملة ممنهجة لتحويل الاقتصاد الوطني من منتج إلى ريعي خدمي، كما أدت تلك المرحلة إلى هجران الصناعيين لمهنهم وتحوّلهم إلى تجار، ويكفي استعراض الكوارث التي خلقتها اتفاقية التجارة الحرة السورية التركية، للدلالة على الاتجاهات التنموية للحكومة آنذاك، فبدلاً من خلق التنمية ـ أي تنمية كانت ـ تحولت البلاد إلى اقتصاد متهالك بلا تنمية.

التصويب الثاني الذي أتى بعد الدردري على التنمية في سورية، كان مع قدوم حكومة عادل سفر، أول حكومة بعد الأزمة، وإلغاء منصب النائب الاقتصادي، ليذهب الملف من جديد إلى وزير الاقتصاد محمد نضال الشعار، الذي عبر بصراحة عن عدم رضاه عن أسلوب الحكومة التنموي السابق، وقدم رؤية مختلفة وجديدة، وأوضح في لقائه مع الفعاليات الاقتصادية والتجارية في غرفة تجارة دمشق بتاريخ 29 حزيران 2011 رؤيته للتنمية القادمة، وقال: (التنمية المتوازنة لا تقنعني، ويجب التركيز على التنمية غير المتوازنة، رغم أنه عنوان غير جميل)، طارحاً مثالاً بالتركيز على 10 قطاعات بدلاً من الاهتمام بكل القطاعات. هكذا تحدث وزير الاقتصاد يومذاك، وهذا موقفه من النموذج التنموي الذي يجب أن يتبع، بهدف (تدوير المنفعة على جميع الشرائح) على حد تعبيره. وهي  العبارات ذاتها التي كان الدردري يستند إليها في معرض دفاعه المستميت، الأحادي الجانب، عن أفكاره المثيرة للجدل. ذهب الشعار، وأتى من بعده محمد ظافر محبك وزيراً للاقتصاد، وعاد منصب النائب الاقتصادي، ولم يتحدث أحد عن جديد يذكر حول النهج التنموي المنتظر، بل أعيد إنتاج الإشكالية ذاتها التي استمرت طيلة فترة حكومة عطري وهي تحديد النهج الاقتصادي، والنفي الدائم للنائب الاقتصادي آنذاك قدري جميل: (لايوجد فريق اقتصادي) ما يعني حالة من التخبط.

الآن عدنا من جديد،  إلى السعي لتحقيق تنمية مجتمعية متوازنة ومستدامة، للانطلاق مستقبلاً من مرحلة التنمية القطبية التي تتمركز في المدن، إلى التنمية الشعاعية التي تشمل كل المناطق والأرياف والقرى، من أجل تحقيق استقرار اجتماعي، وتأمين فرص عمل، والحد من هجرة سكان الريف إلى المدن، على حد تعبير رئيس مجلس الوزراء في افتتاح منتدى الاستثمار السياحي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة (11 ـ 12 نيسان 2014).

 إنها العبارات الرنانة ذاتها، التي تطلق في كل مؤتمر أو منتدى، ومن بعدها ينسى الجميع ما قيل، مع إطفاء أنوار القاعة. لكن النتيجة أن سورية الآن بلا تنمية، وبصراحة: سورية (بدّها) تنمية.. يا حكومة!

العدد 1140 - 22/01/2025