التواصل وأخطاء الحوار
تعد القدرة على الاستماع من الأدوات الرئيسة للوصول إلى عقول من نعتني بهم، قبل قلوبهم، لأن الإصغاء يخفف من الميول العدوانية في لحظات التوتر والانفعال، لخاصية هذا المستوى من الإصغاء التي تحمينا من الوقوع أسرى أفكارنا المسبقة، وانفعالاتنا المحمومة، ومحاولة قراءة ما لم يقله المتحدث بوضوح.. تجنبنا تصنيف المتحدث بأي تصنيف سياسي أو اجتماعي، أو إطلاق أية صفة شخصية عليه، قبل إنهاء كلامه صراحة. فالمقاطعة وإلقاء الأسئلة قبل إنهاء المرسل لكلامه، تفسد التواصل وتفقده أهدافه، وذلك بواسطة تبديد هذه الأفكار، بدلاً من تنميتها وتماسكها عبر تأصيلها في السلوك الهادف.
النظرية الأساسية للاتصال، تنطلق من وظائف معالجة المعلومات، كما وصفها مايكل هول وفق ما يلي: المعالجة نفسها تكون بالتفكير، والمحاكمة العقلية والتأويل، إذ بذلك تتم عملية الإرسال سواء عبر اللغة أو عبر السلوك، من حيث أن الاستقبال أو التلقي يحدثان كحد أدنى من خلال الاستماع.
والأمثلة على عدم التمكن من مهارتَيْ الإصغاء والاستقبال كثيرة، عبر ما تقدمه البرامج السياسية في الفضائيات العربية التي يسمعها ملايين المشاهدين، إذ تتوفر لها كل الخواص الدعائية وتحظى بامتياز أعلى نسب متابعين، رغم تفاهة المستوى الحضاري لميكانيزمات الحوار. ورغم ذلك نشاهد ونتابع أصداءهما في حياة الشارع في اليوم التالي، إذ نجد أن المستمع ينسى الحدث الجوهري المعيش، ويتم التركيز على الحوار الذي سمعه الناس كنسبة متوسطة من المشاهدين والمتابعين، والمهاترات في طريقة ردود المتحاورين لبعضهم مرات والتي تسهم بصورة جلية في تحزب الأشخاص انفعالياً تبعاً لما يمثله كل طرف.. إذ عايشت آثاراً عكسية لحالات عدة خلال متابعتي العيادية، من بداية الأحداث الصاخبة التي عرفها الشارع العربي منذ عام ،2011 ومن خلال الأحداث التي تعمّ حياتنا اليومية في سورية منذ قرابة السنتين بصورة خاصة.
فكثرة المفاهيم الممجوجة في الحديث، تسهم في منع المتلقي من التركيز على كلام محدثه، وذلك بواسطة عدم الانتباه لمشاعره، وإمكان تبادل الأدوار لتجنيبهم الأذية، والتركيز على محتوى الأفكار المطروحة وغض النظر عن أسلوب العرض، بالابتعاد عن الوقوف عند مفردات بعينها، وحجب النظر عن سياق الحديث بصورة كلية. كما أن لتلخيص الأفكار التي يعرضها من نحاوره أهمية خاصة، من حيث الإحاطة ذهنياً بمنظومة تفكير محاورنا، ومقدرتنا على حبس الأنفاس، والرد الموضوعي والعقلاني عليها، بصورة غير مبتسرة، كحل وقائي لإنضاج لغة الخطاب بين أطراف الحوار.
هيلين كيلر التي عاشت وماتت وهي عمياء وصماء وبكماء، قالت يوماً: إنني حين ألمس يد من يصافحني، أشعر بما في قلبه من حنان، و رحمة أو شدة، جفاف أو قسوة. فبعض الناس عندما أضع يدي في أيديهم، أحس بأنهم خَلوا من المرح، وأحس كأنني أستقبل ريح الشمال الباردة.. وبعضهم الآخر كانت تشع من أيديهم حرارة تغمر قلبي وتدفئه.. وهنا إشارة بارزة إلى أهمية تفعيل لغة الجسد، التي تعطي الثقة لكل طرف بالطرف الآخر المعني بالحديث معه.
مؤثرات من النقاط المؤثرة في الحوار:
– عدم إطالة الأفكار، التي تسهم في عزوف الآخر عن جودة الانتباه والتركيز على التفاصيل المطروحة، وتضييع الوقت.
– البدء بالكلام عن خبراتنا، أو خبرات محدثنا، أمر هام في تحسين التواصل، الذي يسهم في إتمام الحوار والالتقاء مع مفاهيم الآخر.
– ومن الإيجابيات الناتجة عن جودة مهارة الاستماع، أنها تمكننا من اكتشاف المتناقضات، والاستمتاع بأساليب الدعابة التي يقوم بها محدثنا.
– الابتعاد عن المصطلحات غير المألوفة في حديثنا العادي أو المتخصص، لخلق تواصل فعال وله أثر جيد في الابتعاد عن مواطن التشتت الذهني.
كما لا يخفى ما للمناقشة، بعد أي حديث يحصل بين الأشخاص، من دور بالغ الأثر إذ يهيئ الأجواء لنشوء الفهم المشترك بينهم، وإسقاط الالتباسات الشائبة في الذهن عند كل طرف، بما يسهم في تطوير لغة مشتركة، وعيش آثار لطيفة الأثر على المتحاورين.
معيقات: ومن معيقات التواصل:
– الضوضاء المبددة للاستماع، فالبحوث العلمية تثبت أن الاستماع يستغرق ثلاثة أمثال الوقت الذي نمضيه في الكلام، فالمرء يستمع يومياً إلى ما يعادل كتاباً متوسط الحجم، ويتحدث ما يعادل كتاباً كل أسبوع، كما يقرأ ما يعادل كتاباً كل شهر، ويكتب ما يعادل كتاباً كل عام.
– إبراز أهمية القدرة على الاستماع، باعتبارها الأداة الرئيسة للوصول والتواصل الاجتماعي الطبيعي البعيد الأثر، بدلاً من التناحر وبث العداوات بين الناس، وخاصة في مواقف الخلاف والصراع، لما لذلك من مقدرة على التخفيف من ميولنا العدوانية في لحظات التوتر والانفعال التي يتسم بها سلوك البشر عموماً.
مهارات
ومن المهارات في نشر ثقافة الديمقراطية والاهتمام بالآخر، بدلاً من نبذه أو السيطرة عليه:
1- التهيؤ للتواصل مع الغير يساعد في إنجاح عملية التواصل.
2- الالتزام بالقيم وإرساء الضوابط الاجتماعية السائدة في أعراف مجتمعنا.
3- حصول تفاهم بدئي بين مختلف أطراف التواصل هو المعيار السليم الذي من المهم الإشارة إليه، إذ هدف التواصل والاتصال صلة الأرحام وصلة المودة.
4- إن عدم وجود هدف واضح للالتقاء بالآخرين، أو عدم معرفتنا بتأثير كلماتنا وسلوكنا، أو النظر إلى الأمور من منظورنا الشخصي، والفشل في مجاراة من يتحدث إلينا، مما يترك أثراً ملحوظاً في صعوبة فهم الآخرين، إذ إن الناس يختلفون في فهم المقصود، كل حسب خريطته الذهنية. لذا لابد من مخاطبة محدثينا بلغتهم وباهتماماتهم، فالناس يختلفون في فهم المقصود، كلّ حسب خريطته الذهنية وساحة شعوره ووعيه. وتؤكد تجارب من يعملون في تدريب الكوادر والعاملين في برامج التنمية البشرية أن معظم حالات الإخفاق في الاتصال، لا تحدث نتيجة الخطأ في تقديرنا لتأثيره في الآخرين، بل نتيجة عدم اهتمامنا بهذا التأثير في المقام الأول.
ففي حال لم نرغب في إحداث أي تأثير في الشخص الذي نصادفه أو نبغي لقاءه قصداً، فإذا كنا لا نرغب في إحداث أي تغيير في فهمه، أو لم ندرك ما الذي يرغبه هو من لقاءنا به، من خلال فهم مشاعرنا أو سلوكنا وحتى معتقداتنا، كل منا للآخر، فلماذا نتصل مع بعضنا أو نتحاور معاً؟ سؤال برسم الإجابة لكل شخص تصله كلماتي هذه.
د. مرسلينا شعبان حسن
«محللة نفسية»