قراءة في قانون العقوبات الاقتصادية الجديد
صدر قانون العقوبات الاقتصادية الجديد رقم 3 بتاريخ 20/3 /،2013 فألغى العمل بالقانون القديم الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 37 تاريخ 16/5/ 1966وتعديلاته، وذلك تبعاً للحاجة إلى إصدار تشريع جديد لمواجهة الآثار الاقتصادية الناتجة عن الأزمة التي يمر بها القطر حالياً،وما تعرض له الاقتصاد السوري من حملات تخريبية، استهدفت تدميره والقضاء على بنيته التحتية، وضرب استقرار سعر صرف الليرة السورية.
وقانون العقوبات الاقتصادية، وفقاً لما عرفه الفقه القانوني هو: (القانون الذي يعاقب على الأفعال التي تتعارض مع السياسة الاقتصادية للدولة). وبالتالي فإن الشكل الاقتصادي الذي تنتهجه الدولة وخيارها الاقتصادي يسهمان إسهاماً رئيسياً في تحديد ماهية الأفعال التي تشكل جرائم اقتصادية، ومقدار العقوبة الواجبة عليها.
وقد حددت المادة الثانية من القانون الجديد أهدافه ب(مكافحة الجرائم الاقتصادية والمالية. وحماية الاقتصاد الوطني، والمال العام، وضمان السير الطبيعي للنشاط الاقتصادي في إطار النزاهة والشفافية وسيادة القانون). فيما عرفت المادة الأولى بعض المصطلحات المستخدمة في القانون، فعرفت الدولة على أنها (الوزارات والهيئات والإدارات والمؤسسات والشركات والمنشآت العامة ووحدات الإدارة المحلية وجميع جهات القطاعين العام والمشترك). وما يلاحظ على هذا التعريف أنه أقرب مايكون إلى تعريف السلطة التنفيذية في الدولة فقط. فقد أغفل الإشارة إلى السلطتين الأخريين في الدولة (التشريعية والقضائية).كما يلاحظ أن المادة أدخلت عقوبة جديدة إلى العقوبات الجنائية، وهي عقوبة السجن. ويبدو أن ذلك جاء تماشياً مع الانتقادات التي ترد من المنظمات الحقوقية الدولية ، لعقوبة الأشغال الشاقة المنصوص عليها في قانون العقوبات السوري (وهي غير مطبقة عملياً في السجون السورية)، وابتعاداً عن عقوبة الاعتقال التي يغلب عليها طابع العقوبات السياسية.كما عرفت هذه المادة المال العام بأنه الأموال العائدة للدولة. وعدّت بحكمه أموال الأحزاب السياسية المرخصة قانوناً، والجمعيات التعاونية والنقابات المهنية، والأموال المودعة لدى الجهات العامة، وأموال الوقف.
وقد أوجب القانون الجديد في مادته 22 أن تكون قيمة الضرر أو النفع الناتج عن الجرم تتجاوز الخمسمئة ألف ليرة سورية، ليصار إلى تطبيق أحكامه.فيماكان القانون القديم يميز بين الجرم المقصود والجرم غير المقصود، فيشترط لتطبيق أحكام الفانون على الجرم الأول أن تتجاوز القيمة مبلغ مئة ألف ليرة سورية، وعلى الثاني مئتي ألف ليرة سورية. مع وجوب تطبيق أحكامه على جرائم سرفة المال العام، وإساءة الائتمان عليه، واختلاسه، وإضعاف الثقة بالاقتصاد الوطني، مهما كانت قيمة الضرر أو النفع. وقد أدى ذلك النهج إلى إيقاع العقوبة نفسها أحياناً بحق من يسرق أشياء ذات قيمة تافهة، وبحق من يسرق أموالاً طائلة، وكان ذلك أحد عيوب تطبيق القانون القديم.
وقد أبقى القانون الجديد على الكثير من الأفعال التي جرّمها القانون القديم، كجرائم تخريب الرأسمال الثابت، والبضائع، وغش الدولة، وتشغيل وترفيع الموظفين والعمال خلافاً للقانون، وسرقة واختلاس المال العام وإساءة الائتمان عليه، والرشوة، وإبرام العقود خلافاً للقانون بما يضر بالمال العام، والتقصير في تزويد السلطات بالمعلومات والإحصاءات ونتائج البحوث والمخترعات، والغش الذي يسيء إلى سمعة الاقتصاد الوطني ويضعف الثقة به، واستغلال المكانة والنفوذ للحصول على منافع وأجور من خلال إنالة الغير وظيفة أو مشروعاً أو مقاولة (صرف النفوذ)، وإفشاء المعلومات بما يلحق الضرر بالإنتاج، والتستر على أعمال الفساد. مع ملاحظة تشديد العقوبة على بعض هذه الجرائم، مثل عقوبة جرم عدم تنفيذ الالتزامات المتعلقة بالمشاريع أو المهمات الاقتصادية الأخرى، بقصد إلحاق الضرر بها، وذلك كضرورة أوجبها الوضع الذي يمر به القطر حالياً.
كما أعاد القانون الجديد إلى نصوصه نصاً كان قد أوقف العمل به في العقد الأخير، وهو نص المادة 21 المتعلق بتجريم تهريب الأموال من أي نوع كانت خارج البلاد، أو منع أو تأخير رجوعها. فقد فرض على مرتكب الجرم عقوبة السجن خمس سنوات على الأقل، ومنحه عذراً محلاً من العقاب إذا أعاد الأموال قبل تحريك الدعوى العامة بحقه. وذلك نظراً لكثرة عمليات تهريب الأموال في فترة الأزمة، بهدف ضرب استقرار سعر صرف الليرة السورية. وقد تبين أن النص القانوني الذي كان مطبقاً لايشكل رادعاً جدياً لمثل هذا الفعل، إذ يفرض عقوبة الحبس التكديري مع الغرامة.
كما جرم القانون أفعالاً أخرى هي بالتأكيد من مفرزات الأزمة الحالية، وهي جرائم الإخلال بتوزيع السلع وفقاً للقوانين، لضمان استقرار توزيع السلع في الأسواق، وأفرد لها بالمادة 19 عقوبة جنحية بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات، تشدد لتصبح جنائية، إذا كانت السلعة من احتياجات المواطنين الأساسية، أو مدعومة من الدولة، أو وقع الجرم زمن الحرب أو الكوارث. وكذلك جرّم القانون أعمال الاحتكار الناتج عن إخفاء المواد، أو الامتناع عن بيعها، أو رفع أسعارها، أو بأي طريقة أخرى في المادة 20 منه. وأفرد لهذه الأعمال عقوبة السجن المؤقت، أي ثلاث سنوات كحد أدنى، مع إعطاء وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك الحق في إدارة المنشأة أو المشروع المخالف في حالة الحرب، أو التهديد بها، لمدة لاتزيد عن السنة.
وكان القانون قد نص على أفعال جرمية جديدة غير ناتجة عن الأزمة، كالجرم المنصوص عنه بالمادة 7 وهو جرم الإضرار بالأموال العامة بسبب تعاطي المخدرات أو المشروبات الكحولية. وأفرد له عقوبة الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات.كما لاحظ القانون جرماً على درجة كبيرة من الأهمية، وهو جرم إهدار المال العام، الذي أفرد له عقوبة السجن الجنائي ثلاث سنوات كحد أدنى في المادة 9 منه. والإهدار هنا هو جرم قصدي، يتحقق عندما يقوم أحد المسؤولين عن المال العام بصرفه بطريقة مبالغ بها دون أن يخرجه من ملكية الجهة العامة وحيازتها له. فلا تكون الجهة العامة قادرة على القول بأن أموالها قد نقصت، لكن يكون صرف المال قد تم بصورة غير مجدية. وأبرز مثال على ذلك هو الصرف المبالغ به على إكساء المباني العامة، وعلى الأثاث المكتبي، والسيارات، أو كإقامة مشروع اقتصادي غير ذي جدوى اقتصادية. ففي مثل هذه الحالات فإن ماتم الصرف عليه سيبقى بملكية الجهة العامة، والقيمة لاتزال ضمن رأسمالها، ولايمكن القول إن من صرف المبالغ قد نقل حيازتها أو ملكيتها إليه، لكن كان بإمكان من عقد النفقة أن يستعيض عن هذه الأشياء بأشياء أقل كلفة تؤدي الغرض ذاته، وتحفظ مال الدولة لإقامة مشاريع أخرى.كما عاقبت هذه المادة على الإهدار غير المقصود بعقوبة جنحية.
وأنا أرى برغم أهمية هذا النص وضرورته، فإنه من الأفضل تأطيره بشكل واضح، وأفعال وقيم محددة، أو تحديد المعايير اللازمة للتمييز بين الصرف الضروري وبين الإهدار، أو إناطة تحديد ذلك بالجهات العامة المعنية بتعليمات تنفيذية، منعاً لإساءة تطبيق هذا النص القانوني، وإمكان التعسف في استخدامه، وكي لايكون عائقاً يمنع الموظفين العامين من عقد النفقات اللازمة لسير مؤسساتهم.
وقد أفرد القانون عقوبة الغرامة على كل الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون بنص المادة 25 منه تعادل قيمة الضرر أو النفع الناتجين عن الجريمة.
أما النص الذي لم نستطع إيجاد مبرر له، والذي سيسبب في حال بقائه معضلة قانونية كبيرة، فهو نص المادة 15 الذي عاقب على جرم الرشوة، وخاصةً الفقرة (د) التي نصت حرفياً (إذا أباح الراشي أو المرتشي أو المتدخل أو المستفيد بالأمر إلى السلطات المختصة يعفى من العقاب) فنص قانون العقوبات العام كان يعفي الراشي، والمتدخل، من العقاب إذا أباحا بالفعل قبل إحالة القضية إلى المحكمة.وذلك لكي تتمكن الجهات الرقابية والقضائية من كشف الجرم، وإقامة الدليل عليه، وذلك بالنظر إلى صعوبة اكتشاف هذا الجرم، أو إثباته. ولكنه لم يُعفِ المرتشي من العقوبة بأي حال من الأحوال.
فإن كان قصد مُعدّي القانون هو الكشف عن الجريمة.فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: ماهي الفائدة من كشف جريمة لاعقوبة عليها؟ ومن ثم ألا يشكل ذلك دافعاً قوياً لكل من يفكر بتلقي الرشا، إذ يشكل هذا النص القانوني طوق النجاة له في حال اكتشاف أمره، إذ بإمكانه التخلص من كل تبعات فعله باعتراف أمام الجهات الرقابية، أو الأمنية، أو أمام قاضي التحقيق، أو قاضي الإحالة. فلا يبقى من خيار أمام هذه الجهات سوى إطلاق سراح الموظف المرتشي، وإلا تعرضت للملاحقة بجرم حجز الحرية؟ ثم أليس من الأفضل عدم اكتشاف الجرم، من أن يعطى غطاءً شرعياً بنص قانوني؟ والمفارقة الأكبر أن هذا النص لايطبق إلا إذا تجاوزت قيمة الرشوة الخمسمئة ألف ليرة سورية. وفي حال كانت أقل من ذلك فسوف يطبق قانون العقوبات العام، الذي لايتضمن نصاً مماثلاً. فهل يعقل أن يعاقب موظف يتلقى رشوة بسيطة قليلة القيمة بعقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة، فيما يعفى الموظف الذي يتلقى رشوة بملايين أو مئات ملايين الليرات السورية من العقوبة بمجرد اعتراف بسيط بعد أن يكتشف أمره؟! ألا يشجع هذا النص ضعاف النفوس على تلقي الرشا مع حرصهم على أن تكون قيمتها أكبر من خمسمئة ألف ليرة سورية لكي يفلتوا من العقاب، لأن رشوة بمبلغ صغير، حتى لو كان مئة ليرة سورية، ستدخل مرتكبها إلى سجن الأشغال المؤقتة؟
إنني أرى ضرورة إلغاء نص الفقرة (د) من المادة 15 بما يخص المرتشي، وإلا فإن الأجهزة الرقابية والقضائية ستكون عاجزة عن اتخاذ أي إجراء بحق كبار المرتشين. وهذا الأمر لايمكن أن تكون إرادة المشرع السوري قد اتجهت إليه، وهو يتناقض مع باقي نصوص القانون التي شددت العقوبات بما يلبي حاجات الاقتصاد السوري حالياً، والتي يفترض أن يكون لها الأثر الإيجابي على الوضع المعاشي للمواطن السوري.وأرى أن نص الفقرة المذكورة لم يدرسه معدو القانون بما فيه الكفاية.
وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن القانون قد تضمن الكثير من الإيجابيات، التي جارت مفرزات الأزمة على الاقتصاد السوري في السنتين الأخيرتين، لكن من الضروري التأكيد أن نجاح أي قانون ليس مرتبطاً فقط بمتانة نصوصه، ودقة صياغتها، ومدى شمولها للأفعال الجرمية، وإنما يرتبط أيضاً بكفاءة الجهات القائمة على تطبيقه ونزاهتها، والتي نعلق عليها أملاً كبيراً في حسن تطبيق القانون، وفي قطع دابر الفساد بما يؤدي إلى ازدهار اقتصادنا الوطني وارتفاع مستوى معيشة المواطنين.