العتمة أُخت النور
من حيث لا ندري، تنشأ صداقة خفية وحميمة بين البرق والغيوم، والشّمس والقمر، وبين الغصن والشجرة، والجذور والتراب.
من حيث لا ندري.. تتحدّ الأزهار لتكوّن حديقة، والحجارة لتصنع جبلاً، وقطرات المطر لمواجهة عطش الصحراء وجفاف النفوس.
من حيث لا ندري.. تنشأ علاقة عشق بين الورقة البيضاء وقلم الحبر، وبين الحواس الخمس لتكوّن الوجه، وبين لحاء الشجر ولبّها، وقشورها وبذورها، هذا يُمسك ذاك، وذاك يمسك هذا.
و كأن الحياة قائمة على الاختلاف والتضاد، فلا يمكن أن تستمر إلا باختلاف عناصرها، واتحاد ألوانها لتشكّل قوس قزح، ولوحات طبيعية رائعة، لا تصمد وتبقى إلا إذا كانت مختلفة.
و هل تبقى الوردة من دون أشواك، والنهر من غير مجرى؟
و هل تلمع النجوم وتضيء لو لم يكن جسدها الليل، ورئتها العتمة؟!
كل لحظة تسقط فيها ورقة صفراء، تكون قد تركت خلفها فسحة صغيرة، وفرصة جديدة لمشروع ولادة ورقة خضراء، ولحظة دفن البذور اليابسة في التراب ليست في حقيقة الأمر إلا لحظة ولادتها من جديد….
إن أمّنا الكبرى الطبيعة تُحبّ الاختلاف.. فهي تُرحّب بالورق الأخضر بعد أن تكون الأوراق اليابسة قد عاشت وأخذت حقّها من الحياة، وبالبذور الجافة بعد أن اتّحدت مع التراب اللّين لتولد وتنمو، وتكبر فوق الأرض.
إنها لحظات ومواعيد صادقة وعادلة تقوم بها الطبيعة من حولنا، تُميت هذا وتحيي ذاك، لتفسح المجال لأنواع وأشكال جديدة من الحياة، وتُعطي فرصاً وحظوظاً لخروج روائح مختلفة عن سابقاتها، وثمار ذات طعم ونكهة غريبة ومفيدة تُغني وتُثري، فتمنح بذلك فرصة مؤّكدة لحياتها وبقائها.
و من حيث لا ندري يفعل الزمن فينا ما يشاء..
يُحدث التّجعدات في الوجوه، والأوجاع في القلوب، ويُوشّم العظام بألف ألف سرّ وطعم، ويُطعّم الدّم بكريات عجيبة من الحب والحزن والكآبة.
و من جهة أخرى يمنحنا الفرح، فتظهر البسمة قريبة من التجعيدة، والسرور ملاصقاً للوجع، والجمر والوميض إلى جانب عتمة الروح وظلمة النفس.
إنّه لتنوّع ساحر وعجيب ذاك الذي يُحدثه الزمن فينا ومن حولنا.. فلا تكتمل الأشياء والأحياء بنظره وبنظر أمّنا الطبيعة إلا بالتّنوع والاختلاف…
فاليد غير السّاق، والسّن غير النّاب، والأنف غير العين، والرأس غير الجناح، ومع الاختلاف الواضح، والصّفات الفارقة في وظيفة الأعضاء وأحجامها فإن الوجه الإنساني لا يمكنه أن يكتمل إلا بها.
لا الجبال بمقدورها الاستغناء عن السهول، ولا الأنهار بمقدورها التخّلص من مجاريها ووديانها العميقة، ولا تكون البحار بحاراً إذا لم تحتضن في بطنها اللؤلؤ والمرجان، ويتّسع وجهها وصدرها للصغير والكبير، وتخبّئ في قلبها النّسائم الرقيقة، والعواصف العتيدة.
إن النّور يختلف كثيراً عن العتمة وطبائعها، إنّما في حقيقة الأمر هما إخوة وأصدقاء، كل منهما يكمّل الآخر ويجلوه.
ألم نكن جميعنا في عتمة حالكة قبل خروجنا إلى نور الحياة؟!