خصائص النجاح

بعد الظّروف الّتي مرّت بها سوريّة خلال الأزمة، والخوف الّذي رافق الأطفال وحالات التّسرب الّتي حدثت في المدارس والمفاهيم والقيم السّلبية الّتي زُرعت في نفوس أولادنا وشبيبتنا؛ يظهر السّؤال الّذي يثير قلق العديد من الآباء والمربين: هل سيتمكن هذا الجيل مع كلّ الظّروف الصّعبة الّتي مرّ بها من أن يحقق النّجاح؟!

نحتاج اليوم في مجتمعنا إلى تحديد مفهوم الأميّة: هل الإنسان الأمّي هو الّذي لا يستطيع القراءة والكتابة، أم الأمّي هو الإنسان الّذي لا يملك أدوات التّعلّم الحقيقية، والّذي لا يستطيع محو ما تعلّمه والانطلاق من جديد لتحقيق النّجاح؟!

يحدّد الباحث ألفين توفلر، بأنّه في القرن الحادي والعشرين سيكون الإنسان الأمّي هو من لا يستطيع أن يتعلّم ولا يمتلك القدرة على تقويم معرفته القديمة ليبني عليها معرفة جديدة، وهذا هو حجر الأساس لبناء شخصية ناجحة في المجتمع.

ولتحقيق هذه الأداة لمحو الأمية وبناء مجتمع سليم معافى من كلّ الرواسب السّلبية الّتي خلّفتها الأزمة علينا أن نبني جسراً متيناً للتواصل بين البيت والمدرسة، ونحدّد ما الّذي نريده من أولادنا، فنحن نملك اليوم عدداً كبيراً من الإرشادات والاختبارات الّتي تحدّد المهارات الأساسية، والأهداف، ووسائل لتقييم لقياس التّطور العلمي للطفل، ولكن العديد من أولادنا ما زالوا لا يصغون ولا يكترثون و لا يحترمون السّلطة، بالنسبة لهم يقع الخطأ دائماً على شخص آخر، وهنا يأتي السّؤال ما الّذي نعلّمه في الحقيقة؟! لقد اهتمّ التّعليم في سوريّة في السّنوات الأخيرة بالتّركيز على المعرفة، وأغفل شيئاً مهمّاً وهو الأسس والمفاتيح الأساسية الّتي تحفّز الطّفل للتعلّم، فقد أصبح لدينا متعلّمون أذكياء، ولكن هل نقدم للعالم أولاداً أفضل وأناساً أكثر سعادة وبالغين أكثر نجاحاً؟! في الحقيقة (لا)، لأننا نولي الأهمية الكبرى للمعارف على حساب التّربية الحقيقية، لذلك نحن بحاجة إلى إعادة برمجة للمبادئ الأساسية في مجتمعنا، والّتي تتجسد بالاحترام والمسؤولية والعلاقات الصّحيحة؛ فمن الأخطاء الشّائعة الّتي كانت موجودة في مجتمعنا وما زالت مستمرة حتّى اليوم؛ عند سؤال أيّ من الأهل عن طفلهم، تكون الإجابة بأن علاماته كلّها عشرات، وهذا يعطيه الحق في التّطاول على حقوق رفاقه وعدم إظهار علامات الاحترام لنفسه بالدرجة الأولى وللآخرين بالدّرجة الثّانية. وهنا يبقى السّؤال الّذي يطرح نفسه: لو اهتممنا بزرع قيم وعادات النّجاح في شخصيات أولادنا، هل كنّا سنعاني اليوم من تأثر أولادنا السّلبيّ بالآخرين الّذي تجلّى بوضوح خلال الأزمة؟!

لقد حان الوقت لنبدأ جميعنا في طرح السّؤال الكبير: ما هو التّعلّم؟!! كيف نُساعد مدارسنا على جعل أولادنا يُقدمون أفضل ما عندهم؟! كيف نُقيّم الأفراد في نظام يجمع الأولاد معاً، ويعمل على تلقين المعلومات وحشوها بالرأس دون هوادة، دون أن نعي أننا بذلك نخاطر بتدمير احترامهم لذاتهم وثقتهم بأنفسهم.

إنّ مفتاح التّربية النّاجحة يكمن في تعليم أولادنا بأن يكونوا متعلّمين ناجحين، آخذين حاجاتهم الفردية بعين الاعتبار؛ فلا يمكن أن يتحقق التّعلّم إلاّ إذا كان أولادنا مستعدين وقادرين على الانخراط في عملية التّعلّم.

مجتمعنا بحاجة اليوم إلى تطوير نموذج حقيقي للتعلّم يرتكز على القيم والمواقف الإيجابية والعادات الحسنة. إنّ بذور القيم تبدأ من البيت ولكنّها تنمو وتتفتح في المدرسة؛ فنحن جميعنا نسعى لإبقاء أولادنا سعداء بإعطائهم المزيد من الحاجات المادية، ولكنّنا في الحقيقة نغفل الجوهر، الأمر الّذي أدى إلى امتلاك أولادنا قيماً خاطئة بحكم التّغيرات الاجتماعيّة الّتي مررنا بها، فنلاحظ أن الكذب حلّ مكان الصّدق، والسّرقة مكان الأمانة، والتّطاول على الآخرين مكان الاحترام، والتّكاسل وسرقة تعب الآخرين وجهدهم وفكرهم مكان الجدّ والاجتهاد والبناء الإيجابي!

للأسف لقد كانت جذور هذه القيم الجديدة موجودة من قبل الأزمة في مجتمعنا، وتفتحت وأزهرت خلال الأزمة، لذلك ولكي نحافظ قدر الإمكان على سلامة مجتمعنا من الخلل الّذي أُلحق به، علينا البدء بالتّفكير في برنامج يعمل على بناء المجتمع، تكون فيه القيم الإيجابية نقطة الانطلاق لتغير مواقفنا وردود أفعالنا. هذا لا يعني أن نغفل الاهتمام بتزويد المتعلّم بمهارات القراءة والكتابة والحساب، لأنّها جيّدة لبناء شخصية ذكية، ولكنّها لا تكفي لبناء مجتمع معافى، لذلك علينا البدء بزرع مبادئ الاحترام والمسؤولية، وزرع مفاهيم التّواصل الاجتماعي الصّحيح الّذي لا يعتبر التّدخل بشؤون الآخرين ذكاءً.

 

ما هو الاحترام؟!

المشكلة الّتي تواجه التّعليم في سوريّة اليوم هي أنّ التّلميذ يحتاج إلى تعلّم كيفية احترام ذاته، وبعد ذلك احترام الآخرين، وبضمنهم معلّمه والممتلكات العامة والبيئة الّتي يعيش فيها، وهذه الخطوة تبدأ بأن يمنح الأهل الأساتذة الاحترام الكامل منذ البداية، لأنّ ذلك سيشكل دافعاً هائلاً لزيادة فرص الأولاد في النّجاح في المدرسة ومستقبلاً في حياتهم العملية. يستحق المعلّمون بالطبع الاحترام نظراً لتكريسهم حياتهم المهنية لمهمّة شديدة الأهمية والصّعوبة وهي التّربية والتّعليم، إنّ الاحترام المتبادل بين الأساتذة والأهل والأولاد والتّعاون فيما بينهم هو القيمة الأكثر فعالية الّتي يمكن زرعها ضمن أيّ مجتمع مدرسيّ.

القيمة الثّانية الّتي يجب أن نعمل عليها هي المسؤولية:

يتمتع أولادنا اليوم بحسّ قوي بالعدل، فنراهم يسارعون للدفاع عن حقوقهم، ولكن غالباً ما ينقص هذه المعادلة المسؤوليات الّتي ترافق دائماً الحقوق، لذلك يجب أن نربي أولادنا على تحمّل مسؤولية أفعالهم وتصرفاتهم، وبالتّالي على الأهل أن يدركوا أن على المدرسة فرض قواعد وقوانين وأن على الجميع الالتزام بها، وذلك لضمان تصرّف الأولاد تصرفاً مسؤولاً.

لقد تغيّرت الأسس الرّئيسيّة للعلاقة بين الأهل والمدرسة، ففي الأجيال السّابقة كان الأهل يسارعون لدعم وتأييد المدرسة في حال عاد الطّفل من المدرسة مستاءً، أمّا اليوم فغالباً ما تكون ردّة فعل الأهل الشّك في المدرسة والمعلّم والثّقة بأنّ أولادهم على حقّ، إنّ اتخاذ مثل هذا الموقف يقطع بنجاح الرّوابط الأساسية القائمة بين الأولاد والأهل والمعلّمين والمدرسة.

أمّا القيمة الثّالثة فهي تقوم على أساس بناء علاقات صحيحة مع الآخرين:

لقد أصبح أولادنا أقل قدرةً على التّواصل مع الآخرين، أو على تشكيل علاقات اجتماعيّة صحيحة، فقد بدأنا نشاهد كيف أنّ الخلل الاجتماعيّ والاضطراب السّلوكي قد (تفوّق) على أيّ شيء آخر، لذلك بات من الضّروري إدخال برامج لتعليم المهارات الاجتماعيّة، لضمان تواصل إيجابيّ فعّال بين أفراد المجتمع، خاصّةً بعد أن أصبحنا خائفين من السّماح لأولادنا بالخروج للعب في الحديقة أو الحارة، واستعضنا عن ذلك ببقائهم منعزلين في غرفهم يلعبون بالحاسوب، وبذلك ابتعدوا عن المجتمع وعن التّغيرات الّتي تحدث حولهم.

إنّ المبادئ السّابقة الّتي تحدّثت عنها هي البذور الأساسية للتنشئة الإيجابية، فمن الضّروري أن يتعلّم الطّفل احترام ذاته وتقدير الكبار، وأن يتحمّل مسؤولية تصرفاته، وأن يتواصل تواصلاً صحيحاً مع الآخرين، هذه القيم بحاجة إلى تربة خصبة لكي يتمكّن أيّ فرد في المجتمع من العيش وفق مبادئها.

العدد 1140 - 22/01/2025