الكرسي صديق حنون
كما أن لكل قمحة مسوسة كيّال أعور، كذلك لكل كرسي مهما وطؤ قدرُهُ طالبٌ وراغب ومستقتل.
يحصل أن كرسياً يملّ من صاحبه، لكن صاحبه لا يمل ولا يكلّ منه، يتمسك به. لذلك لا يضع هذا وذاك رجلاً على رجل كي لا يسهو عن كرسيه، بل يشبك رجليه في أسفل الكرسي، بعوارضه السفلية…
القصة حدثت مرة في مدينة سورية ونشرتها الصحف الرسمية منذ سنوات، ثم دخلت عالم النسيان.
مدير معهد زراعي، وهو منصب لا يغري كثيراً، احتاط لكرسيه قبل أن يصل إلى سن التقاعد، فقام بنقل زوجته المعلمة إلى معهده بصفة معاون مدير مستفيداً من معارفه وأصدقائه الذين يتبادلون هذا النوع من الخدمات عادة، وبعد سنتين من وجود الزوجة في المنصب المخصص لها من الزوج، يتقاعد الرجل، وتكون الزوجة جاهزة لاستلام الكرسي لأنها المعاون، والأمر مرتب بالطبع مع الذين في الأعلى، لكن هيهات أن يستطيع التنازل عنه حتى لأم العيال…
يتقاعد المدير نظرياً على الورق، لكنه عملياً يبقى على رأس كرسيه، يداوم دواماً كاملاً في مكتبه ويدير المعهد باسم زوجته، مهمة المدام فقط أن توقع على ما يقرره السيد الزوج، ولا أدري ماذا فعلت الجهات المختصة بالرجل بعد انفضاح أمره في الصحف الرسمية، لا في صحف المعارضة والصحف الخارجية المغرضة.. لكن نستطيع التخمين أنّ العقاب سيتناسب عكساً مع حجم الدعم للرجل، أي حجم الجهة التي وضعت هذا الرجل المناسب في ذلك المكان المناسب.. ربما عوقب الصحفي مثلاً في حال كان الداعم من العيار الثقيل.. والله أعلم!
يا إلهي.. إذا كان كرسي مدير معهد زراعي بهذا الإغراء، فكيف بالكراسي الأكبر والأدسم والأعلى؟! يتساءل مشاغبون…
***
حدث أيضاً أنّ موظفاً في جهة عامة كانت مهمته ترتيب بريد صاحب القرار الأعلى في المؤسسة، وإدخال هذا البريد إليه وتوزيعه على الجهات الأدنى، كان يقف ذليلاً راجفاً خائفاً أمام السيد، لكنه مع كل العاملين الآخرين كان سفاحاً حقيقياً، يعاملهم بجلافة وحقد شديدين، وكأنه في مواجهة مع الجميع، هو الوحيد الحريص على عمل المؤسسة ومصالح الدولة والباقي خونة متآمرون يتحينون الفرصة للتهرب من أعمالهم وترك مهامهم.. والرأس يرى ما يفعله هذا الصغير ويبتسم في سره، ثم يزيد عيار السحق الممارس عليه ليزيد هو أيضاً سحق الآخرين..
حين جاء موعد تقاعده، لم يكن يتصور أن (المعلم) سيتنازل عنه وعن خدماته بهذه السهولة، فقدم طلباً مشفوعاً بالاحترام والتبجيل لتمديد خدمته، لكن (الأستاذ) مزّق الطلب قائلاً إن القوانين والأنظمة واضحة، لا تمديد لأحد.. أعاد صاحبنا الطلب، لكنه هذه المرة أعرب عن استعداده للعمل مجاناً ودون أن يقبض سوى راتبه التقاعدي مقابل البقاء على كرسي المكتب لخدمة سيده، فهو لا يستطيع العيش دون أن يكون (خادم للأوادم).. أيضاً جاء الطلب مع الرفض…
النتيجة أن جلطة اقتحمت قلب الرجل قبل أن يبدأ في تجهيز معاملة التقاعد، واستلم متربصٌ مثله، كرسيه وقلمه وطريقته أيضاً في الانسحاق والسَّحق..!