144 مليار دولار خسائر اقتصادية.. ماذا عن الملف الإنساني للأزمة السورية؟

اختزال الأزمة في سورية اقتصادياً، بذكر أرقام تقديرية عن الخسائر التي مني بها الاقتصاد الوطني، خلال 38 شهراً متتالياً من الدمار والعنف، لا يعبر عن جوهر الأزمة، في شقها الاقتصادي والاجتماعي، ولا يسهم في إيجاد حل جذري لها. وهي بالنهاية مجرد أرقام جافة، تثير التساؤلات أكثر مما تقدم إجابات منطقية، ورغم الجهود المبذولة التي تسعى للإحاطة بحجم هذا الدمار، عبر تقدير الخسائر، إلا أن مجرد التركيز على الأرقام التي لحقت بالبنى التحتية، وفوات الأرباح الذي لحق بالمؤسسات الاقتصادية، دون التركيز على النقطة الأهم في كل ما يجري، أي الأرواح البشرية التي زهقت، والبنى الفوقية التي تخلخلت، وربما دُمرت، دليل على رغبتنا في تفضيل المال على البشر، وهاجسنا اللاطبيعي في إيلاء قضايا يمكن تعويضها، على حساب أخرى لايمكن على الإطلاق تعويضها.

وضع المركز السوري لبحوث السياسات رقما تقديرياً لخسائر الاقتصاد السوري في تقرير يغطي النصف الثاني2013 مقدراً الخسائر بـ143.8مليار دولار، وبلاشك فإن هول الرقم وضخامته، يعبر عن حجم الكارثة المالية، والاقتصادية التي تنتظر البلاد، عندما تصمت آلة القتل والعنف، ويصبح صوت آلات البناء هو الأعلى. لكن هذه الخسائر يضاف إليها خسائر بشرية، ورأى المركز السوري للبحوث والسياسات في تقريره، أن خسارة الأرواح البشرية تعتبر أكثر جوانب النزاع مأساوية مع ارتفاع أعداد الوفيات نتيجة الأزمة بمعدل 31% خلال النصف الثاني 2013 ليصل إلى 130 ألف قتيل مع نهاية العام الماضي. كما تقدر أعداد الجرحى بنحو 520 ألف شخص. أي أن ما يعادل 3% من السكان تعرضوا للقتل أو الإصابة أو التشوه، وفقاً لتقرير المركز.

تقديرات الخسائر البشرية، لم تجد من يهتم بها، في إطار مؤسساتي، وإنساني، بل تركزت الجهود المتعلقة بهذا المجال الحيوي الإنساني، على تسييسه. في سورية ثمة مستور، في عدد ضحايا الأزمة، وهناك شيء ما مخفي يثير التساؤلات، وهذا سيثير العواطف والاهتمامات وسيؤدي إلى ذرف الدموع، لاسيما من الدول التي تدعي وتزعم أنها تساند الشعب السوري، وتتمنى له الخلاص من أزمته؟ وعلى سبيل المثال، من هي الجهة التي قدرت، عدد الأطفال من ضحايا نقص الغذاء، والجوع، والبرد، خلال الفترة الماضية؟ من هي الجهة التي ركزت جزءاً من اهتمامها لمعرفة الأمراض التي دخلت إلى أجساد أطفالنا نتيجة ما يجري من أحداث وغياب الرعاية الصحية في عدد كبير من المناطق؟ من هي الجهة التي عبرت عن رغبتها الفعلية في تحييد الأطفال عن الصراع والعنف؟ من هي الجهة التي درست أثر العقوبات الاقتصادية التي فرضتها دول عربية وأوربية وأمريكا على شريحتي الأطفال والمسنين في سورية؟ ومن هي الجهة التي تمكنت من الوصول إلى أطفال تضرروا ليس جسدياً، إنما نفسياً؟ ومن هي الجهة التي سعت لتعويض جيل من الأطفال والشباب فاته قطار التعليم؟ وإلى آخر السلسلة من هذه التساؤلات التي قد لا تنتهي، وسنجد من يذرف عليها دموعاً، لن نصنفها بأنها دموع تماسيح، بل لابد من إطلاق تسمية صحيحة عليها، وأقل ما يمكن أن يقال بحق أصحابها أنهم متاجرون بالأزمة، وأنهم ساهموا بتسييس ملفات من المعيب تسييسها، والدفع باتجاه تعزيز الفرز الطائفي الغريب عن الإنسانية.

وفي عود على بدء، للأزمة في سورية، أسباب اقتصادية واجتماعية، أبرزها الفقر، والبطالة، وضعف الدخول، وتدني مستوى المعيشة، والمحسوبيات، والهوة السحيقة بين قلة من الأغنياء (قدّرهم المرشح لرئاسة الجمهورية حسان النوري بمئة عائلة تستحوذ على الاقتصاد الوطني) والشرائح الواسعة من الفقراء والمعوزين. هذه ليست أسباباً لأغراض الدراسة والبحث، إنها الوقود الذي أدى إلى اشتعال الأزمة، وساهم في استمرارها، قبل أن تنحرف عن مسارها الطبيعي، وتنحو باتجاه العنف والصراع المسلح والاقتتال الدموي. واليوم المؤشرات التي تعبر عن حجم البطالة المتزايدة، وعدد المهجرين، والتراجع الرهيب في الدخول، والتدني الكبير في مستويات المعيشة، والغلاء الخانق، والضغوط المتزايدة التي يعانيها المنتجون الحقيقيون، تغدو كأنها لاشيء، ولاتشكل معضلة كبرى، أمام من سُفكت دماؤهم، وانتُهكت أعراضهم.

في سورية لم نخسر جهود أربعة عقود من التنمية البشرية، لأننا لم نقم فعلياً بهذه التنمية، بدليل المآل الذي وصلنا إليه. إذ لايكفي بناء مؤسسات، وتأسيس مصانع، وسن تشريعات، واستيراد سيارات فارهة وألبسة و(بدلات) فاخرة، لبناء وطن ينتمي إليه أبناؤه، ولايكفي التعبير عن محبة الوطن والانتماء إليه، للقول إن لدينا وطناً نفاخر به، لأنه يمثل الوطن الثاني لمعظم مواطني العالم، دون أن نبني الإنسان فيه.

العدد 1140 - 22/01/2025