جنوح الشباب نحو التعصب الديني

التساؤل المنطقي والمهم والذي يشغل التفكير: لماذا يتجه معظم جيل الشباب، وخاصة الصغار منهم، والذين هم في سن المراهقة والتكوين، إلى الانخراط في تيارات التعصب الديني، ويصبحون جزءاً أساسياً فيها وفي تنظيماتها الهدّامة للحضارة والمجتمع، بينما يجب أن يكونوا هم أساس التقدم والحضارة والفكر العلماني، لما يُبدوه من اهتمام بالعلم والمعلوماتية الحديثة.

يبدو أن مشاكل المجتمعات، مهما اختلفت مستوياتها الفكرية والحضارية والثقافية، ستبقى تعاني من مسألتين أساسيتين هما: التعصب القومي، والتعصب الديني، وإن خبت جذوة هاتين المشكلتين لفترة في أي مجتمع فسرعان ما ستعود للاشتعال من جديد لدى أول هبّة ريح مفاجئة، بسبب خلل في المناخ السياسي لهذا المجتمع أو ذاك. هذا ما رأيناه في العديد من حالات الصراع القومي أو الديني في المجتمعات الأوربية المتحضّرة بعد انفكاكها من سلطة النظام الاشتراكي العالمي، الذي كانت قوّته على ما يبدو هي التي تحافظ على الوحدة الدينية والقومية لتلك الشعوب، والتي سرعان ما بدأ الصراع فيما بينها لدى أول فرصة للانفلات من القيد العسكري لتلك المنظومة الاشتراكية، وهذا ما نراه حتى الآن في مسألة تشكيل جماعات من الشباب متعصبة دينياً وقومياً، في أوربا، لمواجهة اللاجئين ومنع استقرارهم في البلدان التي منحت حق اللجوء للقادمين من مناطق الصراعات العديدة في هذا العالم.

في العالم العربي، ومنذ منتصف القرن العشرين، كاد الاهتمام بالفكر القومي العربي، والتوجّه التنويري للمفكرين العرب، وسيطرة الثقافة العلمانية، أن تصل بالمجتمعات العربية إلى حالة راقية وحضارية، ثقافياً وفكرياً واجتماعياً، فكانت الجامعات والمدارس والمعاهد، والمؤسسات العامة والخاصة، وكل هيئات المجتمع، بعيدة عن التعصب الديني، وكان اهتمام الشباب بالثقافة والدراسة والتحصيل العلمي، والفنون بكل أنواعها، وبالعلم والآداب، والتربية البدنية، والحوار والنقاش الإيجابي، والاهتمام بالمنظومات الاشتراكية والاقتصادية والحرية السياسية كلها على أشدّه حينذاك، إلاّ أن بعض التحوَلات السياسية التي حدثت في السنوات الأخيرة من القرن العشرين، مثل تحوّل بعض الدول المتاخمة للمنطقة العربية من النظام العلماني إلى النظام الديني الطائفي، وقيام بعض التنظيمات المسلحة على أساس طائفي وديني، ما جعل الشباب يتجهون للانخراط في تكتلات متعددة ومتنوّعة لمواجهة تلك المتغيرات المحلية والدولية، فكانت التكتلات الطائفية والدينية، هي التي سيطرت على التفكير، واستحوذت على نسبة كبيرة من اهتمام هؤلاء الشباب، بحجّة الدفاع عن مجتمعاتهم ضدّ أخطار قادمة، كما كان يخطط لهم مفكرو العنصرية والتعصب الديني.

مع التراجع الواضح في الانتماء القومي في تلك الفترة، بسبب ارتباط أغلب الدول العربية بالمصالح والعلاقات الخارجية مع بعض القوى العالمية، على حساب الاستقلال الحقيقي لتلك الدول، وهيمنة السياسة المتسلّطة، بعيداً عن القوانين العالمية، وبعيداً عن حقوق الإنسان، وعدم اهتمام الحكومات بالتطور السياسي والثقافي والاقتصادي، جعل الشباب في صراع فكري بين ذواتهم الطامحة للتجديد، والواقع المحيط بهم، ومما زاد الطين بلّةً، عدم اهتمام الحكومات العربية أيضاً بالمشاريع التنموية والاقتصادية، التي تجعل الشباب عاملين فيها، وهنا وجد الشباب أنفسهم في فراغ قاتل للنفس والتفكير والأحلام، فراغ من العمل والوظيفة والإنتاج، ووو الخ، تلك الأسباب التي ستطيح بمستقبلهم المادي والمعنوي، وبتفاعلهم مع المجتمع، فكان من السهل قيادة نفوسهم وتفكيرهم نحو غايات وأهداف استغلها المتشددون دينياً ومذهبياً، لتوجيه عقولهم نحو أفكار هدّامة، قائمة على العنف ورفض الآخر، تلك الأفكار والأسباب التي تجعل الشاب في حيرة سياسية واقتصادية ودينية واجتماعية، ليُصبح في حالة قلق دائمة على نفسه وأسرته ومجتمعه، لما يراه فيما حوله من صور لأشكال الصراعات، وأنواع الاضطرابات، وتزايد العنف والعدوانية. وللأسف دائماً يجري إظهار الأمور بشكل منافٍ للحقيقة، بأن الأحقاد الطائفية والدينية والتعصب القومي، هي الأساس لنشوب تلك الصراعات والاضطرابات، بينما أسبابها الحقيقية تكمن في فشل السياسات الحكومية المتخلفة في إدارة المجتمعات، وجعل الصراعات الدينية ضمن نظرية المؤامرة دائماً، ولا شك في أن إزالة تلك الأسباب، تعيد الشباب، إلى مكانهم الطبيعي من طلب العلم والعمل، والانخراط في البناء الصحيح للمجتمع.

 

العدد 1140 - 22/01/2025