شفافية مثيرة في «الموارد المائية»… تفسيران متناقضان للنقص في مياه سد الفرات

الرد البطيء، والمتثاقل، الذي قدمته وزارة الموارد المائية على ما نشر في وسائل الاعلام مؤخراً حول النقص الحاصل في كميات المياه المغذية لسد الفرات، أتى باهتاً، وكأنه لزوم ما لايلزم، ويشبه التوقيع الذي لا ضرورة له، على معاملة مهمة جداً. فهناك انخفاض في مستوى البحيرة يصل إلى 3 أمتار وفق ما أشارت إليه  مصادر في وزارة الموارد المائية، وإلى 6 أمتار وفقاً لوسائل الإعلام، التي نبهت من خطورة الانخفاض المستمر لمستوى المياه في البحيرة. تجاوز هذا الانخفاض المستويات المعقولة، دفع إلى دق أجراس الخطر، والتحذير من مغبة هذا الواقع المائي المتراجع. إلا أن صمت وزارة الموارد المائية الدائم في بداية الأمر، وعدم تعليقها على ما أثير من نقاط وتخوف وقلق من هذا الواقع، وانعكاسه السلبي على حيوات المحافظات الثلاث (حلب والرقة ودير الزور) المستفيدة الرئيسية من هذه البحيرة، أدى إلى الانجرار خلف تفسيرات جديدة لا تسر الخاطر، وعمّق القناعة القائمة بأن تركيا  فعلاً خفضت الكميات المتفق عليها من المياه عند جرابلس، والمقدرة بـ 500 متر مكعب بالثانية، وساهم في إثارة الخوف الشديد، بأن الواقع المائي في سد الفرات بات في حالة يرثى لها، وينذر بكارثة.

 وزارة الموارد المائية، الجهة المكلفة بإدارة ملف المياه في سورية، تأخرت كثيراً في توضيح الموقف العام من قضية على غاية من الأهمية، وانتظرت طويلاً حتى أوردت موقفها الرسمي، الذي أتى على لسان الوزير بسام حنا في منتصف حزيران الماضي. الرد المنتظر لنحو إسبوعين، كاد أن يخلو من المعلومات، وجاء في سياق تعليق المشكلة على مشجب الأزمة الراهنة في سورية، والتقليل من حجمها، ومدى خطورتها. في وقت يعلم الجميع يقيناً أن التأكد من صحة انخفاض منسوب بحيرة السد هو قضية وطنية وسيادية بالدرجة الأولى، وتحتاج إلى تأكيد واضح أو نفي غير ملتبس، قبل تقديم أية تفسيرات أخرى، لأنها تحصيل حاصل في نهاية المطاف. الوزير حنا اعتبر أن الحديث عن تفاقم مشكلة نهر الفرات وانخفاض منسوبه في الوسائل الإعلامية المغرضة المساهمة في سفك دماء الشعب السوري (مبالغ فيه، وأن الانخفاض الطفيف في منسوبه مشكلة نعاني منها سنوياً ولا تستدعي الخوف). وعزا حنا ماورد حول هذه القضية إلى (تضخيم وسائل الاعلام لها للضغط على الشعب السوري). طبعاً هذا الكلام للوزير حنا الذي نقل عنه رسمياً في 16 الشهر الفائت، لم يأت بهدف توضيح الموقف، وتبيان الخيط الأبيض من الأسود، وانجلاء الحقيقة، بل أنه أتى ضمن سياق غير مباشر، أثناء  لقاء الوزير أعضاء مجلس الشعب عن محافظة حلب، وهو مايثير التساؤلات أيضاً حول طريقة تمرير المعلومات الآنفة الذكر ضمن سياق غير متوقع، بينما الأمر كان يحتاج إلى أسلوب مختلف وأكثر تأثيراً وموضوعية، ليس أقلها عقد مؤتمر صحفي لشرح أبعاد القضية، وإتاحة الفرصة لوسائل الإعلام أن تنقل معلومات دقيقة وتوضيحية حول واقع المياه في السد، والنقص الحاصل فيها، وعدم رمي المسؤولية إلى ملعب ما يجري حالياً والظروف الراهنة، وتجاهل الدور التركي الذي أشارت  كل أصابع الاتهام  إليه، وحمّلته مسؤولية ما يجري في هذا المجال نظراً لتحكّمه بتدفق مياه نهر الفرات، وإثارة موضوعة عدم التزام هذا الجانب بالاتفاق الموقع سابقاً بين البلدين منذ عام 1987. لا تخفى على أحد حساسية المياه الدولية في سورية، ومنها نهر الفرات، الذي تشترك فيه ثلاث دول، هي سورية والعراق وتركيا، كما لا يخفى على أحد استحواذ الجانب التركي على الحصة الأكبر من مياه النهر، وسيطرتها عليه، نظراً لكونها بلد المنبع أولاً، وعدم الالتزام بالمواثيق الدولية التي تحكم المياه العابرة أو الدولية، والاكتفاء فقط باتفاق ينظم هذه العلاقة بين الدول الثلاث، أتى بعد استمرار الخلاف حول تقاسم مياه النهر.   لكن ما حدث ينذر ربما بسقوط هذا الاتفاق، لاسيما أن معظم المناطق التي تستفيد من مياه الفرات في سورية هي خارج سيطرة الحكومة، نتيجة الأزمة الراهنة، والفوضى التي خلقتها، وتداخل عدد كبير من المعطيات والعوامل المؤثرة في ذلك.  لكن الوزير حنا قدم موقفاً جديداً مفاجئاً، أثناء اجتماع حكومي مع المكتب التنفيذي لاتحاد الفلاحين نهاية الأسبوع الماضي، لفت فيه إلى أن (التدفق بقي طبيعياً خلال العام الماضي وطرأ انخفاض خلال شهر أيار الماضي من المتوقع تعويضه في المرحلة القادمة، وهو ناتج عن تنفيذ سد جديد في تركيا). هذا الموقف يتناقض عما أطلق سابقاً من مزاعم حول تضخيم القضية، والاتجاه نحو تحديد المشكلة والاعتراف بها. ماذا تغير ليعيد وزير الموارد المائية صوغ موقف وزارته من هذه القضية؟ ولماذا التراجع عن التضخيم الاعلامي واتهام وسائل إعلام  بعينها بأنها وراء المشكلة، بينما للقضية شق أساسي آخر خارج الحدود؟ ولماذا التقليل من اهمية وخطورة التناقص الحاد في مياه السد؟ بصراحة القضية ليست مجرد حصة من مياه نهر، يشكل شرياناً أساسياً لسورية، إنها قضية سيادية وطنية واقتصادية واجتماعية بامتياز، لم تتعامل معها وزارة الموارد المائية بشفافية.

العدد 1140 - 22/01/2025