هل الجيش السوري.. جيش نظام أم جيش وطن؟
منذ أول معركة خاضتها بقيادة يوسف العظمة، تبدو المؤسسة العسكرية السورية الضابط الموضوعي للمسار التاريخي لسورية، ليس فقط من منظور سيادي بأولوية وجود جيش في أي دولة تحترم نفسها، بل للأهمية الخاصة لتاريخ هذه المؤسسة في منطقة المشرق التي تعج بالتوترات، والمُعرّضة بشكل مستمر لصيغ متعددة الأوجه من الأطماع الاستعمارية وتشكل سورية نواة هذا المشرق وربما صيغته الوجودية.
احتل الجيش السوري، تحديداً بعد العدوان الثلاثي على مصر، مكاناً ريادياً كأهم عامل محفز للدور الإقليمي للدولة السورية، بشكل خاص بسبب طبيعة الصراع مع إسرائيل، وأزمات الواقع الفلسطيني، والحرب الأهلية اللبنانية، والتوترات المتكررة على الحدود التركية. وداخلياً دوره في تثبيط حركة الإخوان المسلمين العنفية خلال ثمانينات القرن الماضي، إضافة إلى الدور الحاسم في الحفاظ على مقومات الدولة السورية في الأزمة السورية الحالية. ومن الضروري الحديث عن الخلفية الاجتماعية للمؤسسة العسكرية السورية لأنها مؤشر دقيق بالفعل للتطور الاجتماعي للمجتمع السوري وطبيعته الانتمائية. إذ إنه في مقابل ضعف اهتمام الفئات الرأسمالية السورية التقليدية بالجيش، ركز ذوو الجذور الريفية والمدنية البسيطة، وقسم واسع من الطبقة الوسطى على الانخراط في هذه المؤسسة، بمعنى من المعاني مثلت هذه المؤسسة شريحة واسعة من الشعب السوري، وهذه نقطة في غاية الأهمية، إذ تؤسس المبرر التاريخي والأخلاقي لقناعات المؤسسة العسكرية في ضبط الأزمة السورية الحالية ومستقبل الصراع فيها.
وعلى الرغم من ترهل مؤسسات الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية، وتجذر الفساد والبيروقراطية خلال العقود الماضية، وضعف اللياقة الأمنية نتيجة طول مدة الأمان الذي نعمت به سورية، على الرغم من كل ذلك، بقي الجيش السوري في الأزمة السورية الحالية، الأداة الحاسمة في ضبط وحدة الدولة واستمرار بقاء نسيجها الاجتماعي، وبقي الأكثر مصداقية في الدفاع حتى النهاية عن الشرائح الاجتماعية الواسعة التي يمثلها. وخلال المآسي التي نتجت عن العنف المفرط للأحداث، تشكل لدى تلك الشرائح وعي وطني عالٍ تجاه أهمية دور الجيش السوري في الإبقاء على وحدة الدولة وتماسكها الاجتماعي. تم التعبير عن هذا الوعي بصورة أساسية بالتضحيات التي قدمها الجيش وتمسّكه بقيادة واحدة ومصير واحد.
وبغض النظر عن ظاهرة الانشقاقات في الفترة الأولى من عمر الأزمة السورية، والاحتمالية المُفترضة وغير الواقعية حول حتمية تمزقه على غرار الحالة الليبية، والتي سوقت لها المحطات الممولة من دول الخليج العربي، أثبتت العمليات القتالية للجيش في عدة مئات أو ربما آلاف النقاط المشتعلة على مستوى الجغرافيا السورية، وتعرضه لشتى أنواع الحصار والإهمال والتخلي عن عناصره أحياناً، أثبت أنه يقاتل من أجل وطن لا من أجل نظام، مُحرضاً على تحولات في نظرة المجتمع السوري إلى دوره وأهميته، وأثر بشكل واضح على اندثار ظاهرة الانشقاقات في الجيش لاحقاً.
من هنا نستنتج أنه، بعد تحول الأزمة السورية إلى أزمة وطنية عميقة، وسيطرة الفاشية الإسلامية على قسم كبير من الجغرافية السورية، والخوف العميق عند الفئات العظمى من الشعب السوري من احتمالات مستقبلية سلبية على مستوى الوحدة الوطنية والسلم الأهلي، يُثبت أداء المؤسسة العسكرية السورية، من معارك درعا وتدمر والزبداني إلى معركة الشمال السوري، أنه يرسخ العديد من السمات التاريخية الوجودية للدولة السورية، مجذراً مفهوم الدولة العميقة ومتجاوزاً المضامين شبه الشمولية للسلطة التي طغت على بقية مؤسسات الدولة السورية الأخرى.
تبقى أحدى المسارات الحتمية لصياغة خريطة الخروج من الأزمة الحالية هو الحضور القوي للمؤسسة العسكرية السورية في صياغة أي حل سياسي للأزمة السورية، فالأنظمة ستزول أو تتعدل، وهذا ديالكتيك حتمي لتطور الأمم، لكن الجيوش تبقى واحدة من أهم الضمانات لبقاء هذه الأمم. لذلك يجب على من يسعى للمشاركة في أي مؤتمر للسلام من أجل سورية، أن يتمسك بالمحافظة على مركزية دور هذه المؤسسة، وحماية بنيتها اللوجستية وتركيبتها الاجتماعية الواسعة، ونهجها في قضية وحدة الدولة السورية، والسيادة الوطنية، ومواجهة المجموعات الفاشية الإسلامية داخلياً، وأي عدوان مُحتمل خارجياً.