الناجي الوحيد… «سيرة ناقصة لما تبقى من بلاد بعد الحرب»

كل صباح يقرفص رجال بـ(كلابيات) و(دشداشات) في ساحة ترابية من الساحات الكثيرة بين ما تبقى من بيوت القرية، وهم يتداولون كيس التبغ الوحيد، ويلفون دخانهم بـ(ورق الشام) بعد أن يبللوه بأطراف ألسنتهم، ينكشون أسنانهم بأعواد يابسة، ثم يبدؤون سرد سير الخميسات مع نسائهم اللاتي يقمن في اللحظة نفسها بإعداد العجين من دقيق الشعير، لإعداد خبزهم المتاح. هي فتوحاتهم الوحيدة بعد أن شهدوا آخر الحروب وأشرسها أطفالا، وأصبحت ذكريات التوابيت العائدة من الحرب والطائرات التي كانت تمر فوق القرية مزمجرة غاضبة، ثم يسمعون بعد قليل دوي قصفها، يخمنون اسم القرية أو المدينة التي جاء دورها اليوم.. . هكذا.. كانوا أطفالا لا يعرفون لمَ هذه الحرب؟ لمَ هذه الدبابات والمصفحات التي تجوب المدن والقرى كما لو أنها (طرطيرات) تنقل البضائع والغنم والركاب إلى أسواق المدينة؟! لم يجتمع كل هؤلاء الرجال الملتحون ويغيرون على مراكز ومقرات الحكومة ويقتلون  إضافة إلى رجال الحكومة  من يقوده حظه السيئ إلى أن يكون مصادفة هناك لإنجاز معاملة أو كعابر سبيل.؟!..

كانوا صغاراً لكنهم يتذكرون أن القرية كانت تضاء بالكهرباء، تشهد على ذلك بقايا المحولة الكهربائية التي تحولت إلى حطام ولعب لأطفال القرية، وبعض الأعمدة التي بقيت واقفة شاهدة على حضارة حاولت أن تستوطن أرضاً ليست لها…

لم تكن نساء القرية تعرف العجن والخبز، فقد كانت تأتي أرغفة خبز بيضاء معبأة بأكياس نايلون شفافة من المدينة، وتأخذ كل عائلة مخصصاتها التي يحفظها أبو شاهر سائق (الفان) الذي يعمل على خط القرية، فيأخذ صباحاً الطلاب والموظفين وأصحاب الحاجات من قريتهم إلى المدينة، ثم يعمل هناك حتى يعيدهم ليسكن مساءً إلى إحدى زوجتيه اللتين وزعهما على طرفي القرية.. 

الآن وسيلة النقل الوحيدة المتاحة هي الدواب، وعربة أبو شاهر الصغير حفيد صاحب (الفان)، التي يجرها حصان وحيد ويبيع عليها الخضرة من القرى المجاورة وهو في طريقه من وإلى المدينة عبر طريق ترابية مغبرة صيفاً موحلة شتاء.. الطريق كذلك لم يعد كما كان في ذاكرة هؤلاء الرجال المقرفصين على التاريخ…  كان معبداً تسير عليه السيارات بسرعة وتحدث عليه حوادث مرور..  . يضحكون وهم يقتاتون آخر نفس في السيكارة الملفوفة بفوضى..

في القرية الخارجة من التاريخ، في بلاد خارجة من التاريخ، يجلس رجال يحتمون من الشمس بأيديهم ليروا وجوه جلسائهم، ويحتمون من الغبار بكوفياتهم التي فقدت ألوانها، ثم لا سيرة لديهم سوى قصص حروب القبائل التي مرت على هذه الأرض وحولتها يباباً.. قبائل لم يعد لها من أثر سوى أسمائها..

الماء تقوم نساء القرية والأطفال أحياناً بجلبه من البئر الوحيدة، التي تعاون أهل القرية في إعادة حفرها، ويحملونها على حمير لنقلها إلى بيوتهم، يتأمل أكبر الجالسين سناً امرأة بثوب طويل متسخ تقود حمارها المحمل ببرميلي ماء قائلاً: كانت هنا تصل المياه إلى البيوت في أنابيب، أتذكرها كحلم، لذلك كانت البئر مهجورة وناشفة، ثم أعدنا فتحها لاحقاً! ويتنهد: آاااااه كم تطورنا! بل كم تغيرنا! يرد آخر:كم غيّرتنا الحرب؟!

الناجي الوحيد الذي روى هذه السيرة الناقصة لم يكن سوى رحالة جاء متأخراً إلى بلاد كانت تكنى بالتاريخ والشمس والبحر والهدوء.. 

الباقي ضحايا، أحياء وأمواتاً، والضحايا لا يتكلمون، فقط يصوَّرون ويقدَّمون للجالسين أمام الشاشات الملونة كمادة مشوقة..كقصة مثيرة للعواطف في شتاء البشرية الطويل..

إلى أين أخذْتَنا؟ إلى أين أخذْتَ البلاد يا غلطة التاريخ؟!

العدد 1140 - 22/01/2025