وجه اليباس.. وجسد الفراغ
عندما يمتلئ النهر، لا بد له من الفيضان، وبذلك يكون قد تخلص من مياهه القديمة الزائدة في مجراه، ليسمح لمياه شابة عذبة بالإقامة فيه والجريان في جسده الطويل الممتد نحو البحر.
ولن يبقى عطر الورود فيها إذا تفتحت تيجانها، بل سينتشر في كل اتجاه.. دون مقابل ستمنح الوردة عطرها لمن حولها، وحين تذبل سوف تسقط وتقع على الأرض، لا لتموت، بل لتعطي فرصة لزهرة أخرى تنتظر دورها لتنمو وتكبر وتعطي. إن نضوج الأحياء من حولنا لا يقاس بالسنين، بل بالعطاء، فكم من شجرة امتصت سنوات عديدة في جذعها وجذورها دون أن تحولها تلك السنوات إلى شجرة مثمرة، وكم من وردة لم تعش سوى أشهر قليلة، لكنها استفادت من تلك الأشهر لتتحول إلى ثمرة! إن طول العمر ليس دليلاً على طول القدر أوسعة الصدر، وقصر القامة ليس بالضرورة دليلاً على قصر الشرف والكرامة، وقلة المال لدى البعض ليست دليلاً على قلة العقل أو ضيق في الرؤية. إن قيمة الشخص الحقيقية التي تؤمن بها الناس لا ترجع إلى المنصب الذي وضع فيه، بل إلى مدى ما حققه من واجبات، وما آمن به من أهداف، وما سعى إليه لتحقيق هذه الأهداف.
وليس كل من جلس فوق الكراسي المذهبة صار ملكاً، ولا كل من اكتنزت عضلاته وقويت صار عاقلاً، ولا كل من لعب مع الكبار صار كبيراً، ولا كل من حفظ القصائد صار شاعراً، ولا كل من كان صوته مرتفعاً كان مسموعاً. ولا يوجد كبير إلا ويكمله صغير.. ولا يوجد قمم إلا ولها جذور في باطن الوديان، ولا يستحسن الاستخفاف والتقليل من شأن الأشياء وإن صغرت، ولا من قامات الأشخاص وإن قصرت، فكل صغير سينمو في يوم ما، وكل شيء لا بد أن نحتاجه وإن قلّت قيمته.
ألم يكن عقد اللؤلؤ حبات متفرقة قبل أن يجمعه الخيط النحيل؟ والثوب الجميل ألم يكن كومة من الخيطان المبعثرة قبل أن تحوكه أصابع مبدعة، والطرق العريضة ألم تكن في يوم ما طرقاً ضيقة قبل أن تمشي عليها الأقدام؟!
فليس بصخرة واحدة كبيرة تولد القلعة، ولا بصفحة واحدة تتكون الرواية، ولا بنغمة يتيمة تتم الأغنية. وليس العطر سوى خلاصة لعشرات.. بل لمئات من الورود، وليس العسل إلا جهداً متواصلاً لآلاف العاملات من النحل لجمع الرحيق، وليس الزيت إلا عصر ملايين الحبات من الزيتون.
والعربات المجنزرة والآلات العملاقة ليست إلا قطعاً وألواحاً صغيرة من الفولاذ والحديد جمعت بعضها إلى بعض بقطع أصغر منها من البراغي والمسامير.
إن السنديانة العالية كانت حبة بلوط، والبحر الواسع لم يكن إلا باجتماع الأنهار فيه، والعاصفة العاتية كانت أمطاراً ورياحاً متفرقة قبل أن تجتمع لتهب موحدة في وجه اليباس وجسد الفراغ.